السعودية في زمن النفط الرخيص: عجزٌ تاريخي في ميزانية العام 2015 وشرعية العرش الملكي في خطر نديم دياب
كثيرون من أعضاء المجالس الإدارية للشركات النفطية ومسؤولي الدول المصدّرة للنفط ينتظرون يوميّاً، بفارغ الصبر والآمال، ساعة بدء التعاملات في الأسواق كي يحصوا خسائرهم. بعضهم يعضّ أصابعه ندامةً على تعنّته المستمر في تبنّي سياسةٍ انتاجيّة لأسبابٍ لم تعد تتعلّق بمسوّغات التنافسية، والبعض الآخر تخوّفاً من تبعات ما سيحمله له الغد من انزلاقٍ مطّرد بأسعار مواد الطاقة.
لعنة الذهب الأسود تلاحق من استطاع يوماً بناء ممالك ودولٍ بإيراداتٍ ضخمة من بيع ما تكتنزه أراضيه من ثروةٍ سائلة شكّلت حصراً محرّك الاقتصادات الصناعية العالميّة في التاريخ الحديث، لتعطيه هامشاً من القوّة استطاع من خلالها الارتقاء إلى مصافي صانعي القرار العالمي، أو على الأقلّ، المؤثّرين عليه كلٌّ بحسب مخزونه من السائل الباطني. إلّا أنّ إغراق أسواق الطلب بالنفط، أغرق الدول المنتجة والمصدرة له في عجزٍ اقتصادي آيلٍ إلى الاتّساع ما دامت أسعار النّفط تتهاوى.
وفي مستنقع الوحول التّي وجدت نفسها فيه دول "الأوبك" وتلك التي ليست من ضمن المنظمة، ثمّة الكثير على المحك. في زمن النّفط الرخيص، يؤرق حكومات بعض الدول العائمة على النفط- وخصوصاً تلك الخليجية- فقدان شرعيتها، هي التي قايضت في الماضي جزءاً من مداخيلها الطائلة بسلطةٍ في الداخل، وسخت على مواطنيها بتحويلاتٍ اجتماعية وهبَاتٍ ملكية مقابل بسط نفوذها.
ميزانية مقلقة
لم يكن مفاجئاً إعلان السعودية عن تسجيل عجزٍ قياسيّ في ميزانياتها لعام 2015 بقيمة 98 مليار دولار مع تراجع أسعار النفط إلى ما دون الأربعين دولار للبرميل الواحد. الرقم الأعلى في تاريخ الرياض كان بمثابة المؤشر على هشاشة الاقتصاد الريعي للمملكة الذي يعتمد مبدئيّاً على واردات البترول بنسبة %90. وقد حاولت السعودية تقليصه إلى حدود الـ%73 عام 2015 في خطوةٍ استباقية منها لسدّ جزءٍ من خسائرها النفطية والتحوّل إلى الاعتماد أكثر على الإيرادات غير النفطية في محاولةٍ لتنويع مصادر الدّخل، وهي سياسةٌ جديدة أقرّت الرياض نيتها اتّباعها في ميزانية العام 2016.
العام الماضي، قاد انخفاض الإيرادات النفطية الى عجز الخزينة في المملكة الذي شكّل بدوره ما نسبته %15 من الناتج المحلي الاجمالي. إذ سجّلت عائدات النّفط تراجعاً قّدر بنحو %23 على أساسٍ سنوي، لتهبط إيرادات الخزينة العامة إلى أدنى مستوى لها منذ عام 2009، في مقابل ارتفاع الإنفاق الحكومي بنسبة فاقت توقّعات المراقبين بنحو %13 لتصل إلى حدود 260 مليار دولار.
مخاطرات من دون ضمانات
تعي الرياض جيّداً أن قراراتها عام 2015 حملت معها تكاليف باهظة الأثمان. مواجهة المملكة المفتوحة مع جارتها إيران دفعت بالرياض إلى العسكرة الخارجية، لكن تثبيت نفوذها السياسي في الشرق الأوسط وصون موقعها كلاعبٍ من الوزن الثقيل مجابَهة للكتلة الإيرانية المنافسة لها واسترضاءً للحليف الأميركي لم يكن بالمجّان. التّدخل العسكري في اليمن، الذي كلّف قرابة 5.3 مليار دولار بحسب وزير الاقتصاد والتخطيط السعودي عادل الفقيه، والدّعم المالي والعسكري المتواصل منذ أعوام للتنظيمات المسلّحة في سوريا أسهما في استنزاف قسمٍ من الانفاق السعودي، في وقتٍ كانت مداخيل المملكة محدودة.
الجبهات الحربية التي فتحتها السعودية خارج حدودها تلازمت مع مغامراتٍ اقتصادية سياسية الطابع وتمثّلت في عدول الرياض عن تخفيض إنتاجها النفطي، على الرغم من تخمة المعروض عالمياً. الإمدادات النفطية التي فاقت سوق العرض يقدّر فائضها اليومي ما بين 500 ألف ومليون برميل، الأمر الذي أدى إلى سحب أسعار النفط إلى الأسفل لتنخفض بنحو الثلثين منذ منتصف 2014. رفضت السعودية تعديل سياستها الإنتاجية النفطية وآثرت الدفاع عن حصّتها السوقية من دول أي تعديل، لتبقى تضخّ قرابة 10.4 ملايين برميل يومياً، رافضةً الدعوات الدولية إلى خفض إنتاج منظمة الأوبك بغية دعم الأسعار العالمية.
مما لا شكّ فيه أن السعودية تشعر بألم تدهور أسعار النّفط إلى مستوى 37 دولار بعد أن وصل إلى حدود 125 دولار في العام 2012، لكن الرياض تراهن أنّ اقتصادها، على عكس دولٍ أخرى، يستطيع تحمّل أعباء الإنهيار في الأسعار النّفطية، ولذلك تقاسي الرياض خسائر طائلة على أساسٍ يوميّ كرمى لعيون التنافس السياسي.
إستغناء السعودية، وهي أكبر مصدر للنفط في العالم، عن بعضٍ من الكمية التي تنتجها من شأنه أن يرفع الأسعار بما قد ينعش بعضاً من الدول غير الحليفة، إن لم نقل غير الصديقة، كروسيا مثلاً التي يعاني اقتصادها من انكماش بفعل الضربة المزدوجة من جراء السقوط الحر لأسعار البترول المقرون بعقوباتٍ دولية على شركاتها ومصارفها. الواضح أن السعودية تعاند هذا السيناريو، متقبّلةً خسائرها طالما أن ذلك يكسبها موقع قوّة سياسية ورضى واشنطن، والأهمّ من ذلك يكبّد المعسكر الآخر خسائر أعظم. ولكن لحرب الأسعار هذه، التي أسعرتها السعودية، نتائج حارقة على الوضع السياسي الداخلي وعلى الأسرة الحاكمة والصراع داخلها.
وداعاً للبذخ
النفط غاية وجود آل سعود، مكّنهم من بناء مملكة تيمّناً بهم، ومن تحويل النخيل إلى ناطحات سحاب والجمال إلى سيارات جيب. عائدات البترول أعطت المسوغ الشرعي للوجود الملكي وأفراده الذين لم يتوانوا يوماً عن البذخ على مواطنيهم طمعاً بولائهم. حقّقت السعودية السلم الاجتماعي عبر سياسة الانفاق السخي على السعوديين من خلال الدّعم لأسعار الطاقة وتوفير الوظائف في القطاع العام والإعفاء من الضرائب من ضمن سلّةٍ من المنافع الاجتماعية مكّنت الأسرة الحاكمة من الاستغناء عن الانتخابات. إلّا أن انخفاض أسعار النفط وما رتّبه من اتساعٍ في هوّة العجز في الميزانية حتّم إطلاق سياسة تقشّف لم يعهدها مواطنو المملكة وتبني الحكومة سلسلةً من التدابير غير مألوفة قد تؤدي، في حال تفاقمت أو انسحبت الى وقتٍ مديد، إلى تململٍ شعبي كان يُسكت منذ ماضٍ غير بعيد بمخصّصاتٍ ماليّة ملكية وإعانات ومساعدات توزّع بالجملة.
أولى التعديلات الاقتصادية كانت إقرار الحكومة رفع أسعار مواد أساسية بطريقة منتظمة ولخمس سنوات منها الوقود والكهرباء والمياه، إضافةً إلى فرض رسوم على بعض السلع الضارة كالتبغ.
وارتفع سعر البنزين للمرة الأولى منذ عشر سنوات ليصل إلى 0.24 دولار للتر الواحد من البنزين العالي الجودة 95 أوكتين بزيادة %50، في حين أصبح سعر البنزين الأقل جودة 91 أوكتين 0.2 دولار للتر بزيادة %67 ، لتبقى رغم ذلك أسعار الوقود في السعودية من الأدنى عالمياً.
وقد أعلنت الحكومة أنها ستكافح عجز الموازنة، الذي من المتوقّع أن يستمر في العام 2016 بحدود 87 مليار دولار، عبر ترشيد الانفاق غير الضروري وضبطه، والعودة عن بعض المشاريع الإنمائية لا سيما في البنى التحتية، وخفض الزيادة في رواتب القطاع العام، والتوجه إلى زيادة الإيرادات عبر الإلتزام بتطبيق الضريبة المضافة والخصخصة. وبالفعل أعلنت الرياض في الأسبوع الأول من العام الجديد عن نيتها تحويل مطاري جدة والدمام إلى القطاع الخاص.
السعودية التي كانت قد عزت زيادة الانفاق الاجمالي لسنة 2015 إلى تكاليف استحقاقات الضمان الاجتماعي ورواتب موظفي القطاع العام من مدنيين وعسكريين التي تكبد السعودية سنوياً قرابة 107 مليار دولار لدعم الطاقة في البلاد (أي أكثر من إجمالي العجز الذي سُجّل لعام 2015!)، تقف اليوم أمام سلسلة قراراتٍ قاسية من شأنها أن تحدث تصدّع في العقد الاجتماعي التي قامت على أساسه المملكة، وبالتالي تزعزع دعامة استقرار العرش الملكي.
في رهان السعودية على إغراق السوق بنفطها لإرغام منافسيها على التراجع عن حصتهم السوقية أو الرزوح تحت وطأة أسعار البترول المتدنية مكابرة قد لا تستطيع الرياض تحمّل تبعاتها في الداخل الذي أمنت استقراره لعقود عبر توظيف العائدات النفطية الهائلة لتحقيق معدلات عالية للنمو الاقتصادي ونظام رعاية اجتماعية مترف.
وأمام السعودية سنوات عجاف تتحمل مسؤوليتها بعد أن أسهمت في الفيضان النفطي الذي فاق حدود التشبّع ولم تعد تُخِلّه الأحداث السياسية المضطربة، على الأقل في المدى المنظور.
سواد النفط ينعكس على مستقبل السعودية
حرارة الخلاف السعودي-الإيراني الذي أشعل الجبهات الكلامية والدبلوماسية بين الجارتين اللدودتين عقب إعدام الرياض رجل الدين المعارض نمر النمر والاعتداء على السفارة والقنصلية السعوديتين في طهران ومشهد لم يلهب أسعار النفط لوقتٍ طويل. فما لبثت أن ارتفعت الأسعار نسبياً مع بدء التداولات في النهار الذي تلا قطع الرياض علاقاتها الدبلوماسية مع طهران حتى تلاشى هذا المفعول التصاعدي في النهار نفسه بفعل ضعف الطلب العالمي على النفط الذي ما زال يعاني من ارتدادات الأزمة الاقتصادية العالمية.
ومن المتوقع أن يكمل الطلب في كَسَلِه العام الحالي حسبما أظهرت أحدث البيانات الاقتصادية مع انكماش كلٍّ من نشاط المصانع الصينية (للشهر العاشر على التوالي) ونشاط المصانع الأميركية (للشهر الثاني على التوالي)، وحجم نشاط قطاع الصناعات التحويلية في الهند (للمرة الأولى في عامين) خلال شهر كانون الأول الماضي، في مقابل ترقّبٍ لزيادةٍ مطردة في المعروض النفطي بعد رفع العقوبات الغربية عن إيران قريباً.
القيود الاقتصادية التي ستتحرر منها طهران ستنتقل إلى الرياض. حسابات السعودية السياسية وتصدّرها مشهد اضطرابات المنطقة كرأس حربة واشنطن في حروب الأخيرة بالوكالة أدخلتها في مرحلةٍ اقتصادية بدأت تتجرع كأس مرارتها.
د من الضرائب أو الرسوم.