شؤون اقتصادية نحاس: وضعت اليد على الصندوق البلدي المستقل بطريقة مخالفة للقوانين ونشأت منظومة العقود
منذ فترة وقضية النفايات عالقة ومعلقة الحل بسبب سمسرات أهل السلطة على هذه الثروة الوطنية، غير القابلة للنضوب، أو النقصان، بل الازدياد. فبيروت وجزء من الجبل ينتجان يومياً ما يقارب 2500 طن من النفايات.
بعد الحرب الأهلية تحاصصت السلطة السياسية النفايات، الثروة الوطنية، ذات الإنتاج المحلي، وكانت حصة شركة "سوكلين" هي الأكبر، وهُمشت البلديات إلى حد شبه انعدام الوجود. وتكلف الشعب اللبناني ملايين الدولارات، إن لم يكن المليارات، بسبب النهب الممنهج عبر "سوكلين".
اليوم اختلف أهل السلطة السياسية على المحاصصة في النفايات فطمرت النفايات العاصمة. تحرك الشعب وأجبر السلطة على إيجاد حل. حاولت السلطة، في البدء، إعادة توزيع الحصص في النفايات، من إعادة فتح مطامر إلى إيجاد مطامر مقسمة طائفياً، ففشلت، ومن ثم اتفق أمراء الطوائف على تصدير النفايات، بكلفة مرتفعة يدفعها الشعب، وليس أمراء الطوائف. وفقاً لوزير الزراعة، أكرم شهيب، تبلغ إجمالي كلفة الترحيل 220 دولار للطن، ووفقاً لتصريح رئيس مجلس الوزراء تمام سلام الخطة "مؤقتة ومرحلية وانتقالية"، من دون أي ذكر لمدة الفترة "المؤقته والمرحلية والانتقالية". مع لحظ أن فترة العقد مع الشركات المُرحلة للنفايات 18 شهراً، قابلة للتجديد.
إذا افترضنا جدلاً أن الكلفة صحيحة، على لبنان أن يدفع يومياً 550 ألف دولار، سيدفع لبنان لترحيل النفايات سنوياً ما يزيد عن 200 مليون دولار، من دون احتساب بقية النفقات.
أجرت إذاعة "صوت الشعب"، لقاءً مع الوزير السابق، للعمل والاتصالات، الدكتور شربل نحاس عبر برنامج "نحن والاقتصاد"، من إعداد وتقديم الزميل احمد بيرق، للإطلاع على قضية سمسرة ترحيل النفايات، وكانت مقاربة د. نحاس على الشكل التالي:
صدر عام 1977 قانون يتعلق بالبلديات، وعدل قوانين سابقة. أهم مادة في هذا القانون المادة 47 وتنص على أن "كل عمل ذي طابع أو منفعة عامة في النطاق البلدي من اختصاص المجلس البلدي"، وقراراته ضمن نطاقه لها صفة الإلزام. ما يعني أن البلديات مسؤولة عن كل شيء ضمن نطاقها، وعندما تكون هناك مهام، ضمن هذا النطاق، مسؤولة عنها وزارات أو مؤسسات عامة، يكون عملهم يتضمن الإحلال مكان البلدية، فهم يتلقون التوصيات من البلدية، ويخضعون لرقابتها.
بالتحديد فيما خص النفايات لا يوجد أي وزارة أو مؤسسة عامة لها علاقة بمسألة جمع ومعالجة النفايات، وبالتالي جمع ومعالجة النفايات هي مسؤولية حصرية للبلديات. وبواقع الحال كانت البلديات تقوم بكل ما له علاقة بالنفايات حتى تاريخ نشوب الحرب الأهلية في لبنان. لكن هذا الأمر تلاشى، تدريجياً، خلال الحرب الأهلية، مثله مثل بقية الخدمات العامة. وبسبب الحرب الأهلية كانت ترمى النفايات إما في خليج النورمندي، أو في مصب النهر في برج حمود، وتحولا إلى جبلين من النفايات وبقي الأمر على حاله حتى انتهت الحرب الأهلية.
عندما انتهت الحرب كان الوضع كالتالي: ألغت الدولة الانتخابات البلدية، وكان آخر انتخابات لمجلس البلديات عام 1963. أي أنه لم يحدث أي انتخابات لمجلس البلديات لمدة 30 سنة، ما يعني أن أعضاء مجالس البلديات كانوا إما مسنين، أو توفوا، أو مشتتين بسبب الحرب الأهلية... بعبارة أخرى كانت البلديات مشلولة عند انتهاء الحرب الأهلية. لكنه بالرغم من هذا صدر قانون البلديات عام 1977، وتم إنشاء معملين لفرز النفايات، العمروسية، والكرنتينا. وحتى تاريخه المعملان ممنوعان من العمل بسبب التحاصاصات الطائفية.
بالإضافة إلى حصر عملية جمع ومعالجة النفايات بالبلدية، لحظ القانون كيفية تمويل البلديات. وفي أحدى بنوده يذكر أن البلديات تحصل على نسبة من الضرائب، من ضرائب الاستهلاك إلى الجمارك، التي تجبيها الدولة، ويجمع المبلغ في الصندوق البلدي المستقل، وتوزع أمواله، شهرياً، على البلديات وفق حصص يُحددها مجلس الوزراء.
نهب الصندوق البلدي المستقل:
هنا حصلت عملية نهب المال العام، أي أموال البلديات. كون البلديات كانت مشلولة بعد الحرب الأهلية، ولم يعد هناك توظيف لعمال جدد، وحالهم أصبح كحال مجلس البلديات، ولم يعد من قوة ضاغطة تطالب بأموال الصندوق البلدي المستقل، فتحول إلى مال "سايب". فكانت الفكرة الجهنمية للسطو على هذه الأموال فكلَّفت الحكومة اللبنانية، بطريقة مخالفة للقانون، ومن دون أي صفة، "مجلس الإنماء والإعمار"، والذي بدوره لا علاقة له بهذا الأمر، أن يتعاقد مع شركة ما، للقيام بجمع ومعالجة النفايات، والتي هي من المهام الحصرية للبلديات، وتتقاضى هذه الشركة الأموال من الصندوق البلدي المستقل، والذي في الأصل لا يحق للدولة التصرف بأمواله بكونه مستقل عن مالية الحكومة.
وضعت اليد على الصندوق البلدي المستقل، بهذه الطريقة المخالفة للقانون، ونشأت منظومة العقود، الممثلة بشركة "سوكلين"، التي بدأت في بيروت وتوسعت إلى جبل لبنان. عام 1998 حصلت الانتخابات البلدية، لكن اللعبة كانت قد بدأت، بالإضافة إلى تحالفات السلطة لتركيب الانتخابات البلدية وفقاً لأهوائها، لأن أكثر ما يزعج الزعامات الطائفية هو الانتخابات البلدية، كونها تضعهم في حرج مباشر مع الشعب، ولو كان الأمر يعود إلى السلطة السياسية لألغت الانتخابات البلدية من رمتها، واستكملت عملية النهب، ولم تطالب البلديات بأموالها، وإعادة العمل باختصاصها. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل كانت "سوكلين" تقوم بتقديم بعض "الخدمات" للبلديات لاسترضائهم، واستكملت حلقة التواطئ، مجلس الوزراء وضع يده على أموال البلديات وهي بدورها تنازلت عن مسؤولياتها، وسوكلين تعمل. عند كل انتهاء لفترة العقد مع "سوكلين" كان يتجدد، والعذر عينه، انتهى العقد علينا تجديده وإلا لتأكل النفايات الشوارع. والعقد لم يلحظ في أي بند منه ماذا يحدث عندما ينتهي تاريخه، من سيملك المعدات بعد انتهاء العقد، من المسؤول عن العمال والموظفين، كيف يحدث الانتقال... ما يجعل من مسألة تمديد العقد مع سوكلين بحكم الأمر الواقع والابتزاز.
على الرغم من كل هذا التواطئ، على نهب الصندوق البلدي بقيت نقطة عالقة وهي كيف لنا أن ندفع لـ"سوكلين" من الصندوق البلدي المستقل؟ كموظف المالية عندما يريد أن يدفع عليه أن يقطع المبلغ من حساب معين لوضعه في حساب المتعهد، "سوكلين". من أين له أن يقطع المبلغ؟ فهو لا يستطيع قطعه من صندوق البلديات المستقل لأن هذا الأمر غير قانوني، والصندوق لا يستخدم إلا لتوزيع الأموال على البلديات. فكانت فكرة الحل في حشر مادة في موازنة 2002 تفيد بأنه يتحمل الصندوق البلدي المستقل كلفة النفايات! مع لحظ أنه رغم حشر هذه المادة، وهي التي في الأساس غير قانونية، فهي لا تخدم صلاحيتها أكثر من سنة، كون الموازنة سنوية، لكنه كالعادة أصبحت أبدية.
هنا يُطرح السؤال التالي: كيف للصندوق البلدي المستقل أن يتحمل الكلفة وهو ليس له كيان قانوني كي يتحملها، فهو صندوق تجمع فيه الأموال لتوزع للبلديات حصراً، عند آخر كل شهر؟ وبالتالي حتى مع هذه المادة "الترقيعية" بقيت كل هذه الدفعات تحصل بشكل غير قانوني. فكانت بدعة آلية أنه عند نهاية كل شهر يوقع مرسوم من قِبل رئيس الجمهورية، ووزير الداخلية والبلديات، ووزير المالية، ورئيس الحكومة، بأمر دفع، من دون ذكر أي تنسيب، وبالتالي يصل الأمر إلى الموظف. لكن من أين للموظف بأن يقتطع المبلغ ليدفعه للمتعهد؟ يُدفع ويُسجل دين على البلدية، وتُعتبر دفعة مؤقته بانتظار التسوية. ما يعني أن كل الدفعات التي دُفعت، وهي تقارب المليارا دولار، لا سند قانوني ومحاسبي لها، وهي دفعات مؤقته مغطاة بقرار سياسي مخالف للقانون وهي حتى تاريخ اليوم غير منتهية.
تشريع النهب:
اليوم يذكر أهل السلطة السياسية، بالعلن، أنهم يريدون تشريع قانون لإعفاء البلديات من ديونها. الأمر ليس بحاجة إلى قانون كونه في الأساس البلدية لا تتحمل شيئاً ولم توقع عقداً عليه، وإن فعلت فهي تخون أمانة من انتخبها.
استمر هذا الواقع حتى الصيف الماضي. ما الذي حدث؟
التفسير المنطقي لما حدث هو أنه خلال السنة والنصف الماضية حصلت حروب في المنطقة والكثير من إراقة الدماء، وانخفض سعر النفط عالمياً. أصيب زعماء لبنان بضائقة مالية لشح التمويل الخارجي، فولِدت الحاجة إلى العمل على التمويل الذاتي، ومنها ليكن لكل زعيم "سوكلينه" يعتاش منها في منطقته ومن جماعته. فاختلفوا على توزيع الحصص في كمية النفايات، والنهب، وتحديداً من حصة بيروت، كونها تمثل الكم الأكبر من إنتاج النفايات. فكانت وسيلة الضغط للحصول على حصة أكبر كل زعيم يهدد بإغلاق المطمر الواقع في إمارته، إن لم يأخذ حصته من نفايات بيروت.
كالعادة أُقر مرسوم، غير شرعي، قسمت به المناطق لاستدراج العروض، لاحقاً عُدل المرسوم، بسبب تغير في حدود المناطق، وكانت عملية استدراج العروض. ولم تنته! فكان البازار قائماً والطبخة لم تنضج بعد وأخبر الشعب أن الأزمة انتهت. في صباح اليوم التالي من أخبره أنها انتهت أخبره أن ما حدث كان فضيحة وألغيت التلزيمة! تحرك الشعب وبدأ يطرح حلولاً لمعالجة أزمة النفايات وإعادة أموال البلديات للبلديات، وتشغيل معامل الفرز المعطلة قصراً وازداد الضغط الشعبي على أهل السلطة. قامت السلطة بانتداب شخص موهوب في هذا المجال، الوزير أكرم شهيب، الذي لا علاقة له بالموضوع ودستورياً لا يحق له أن يقوم بهذا العمل، إلا إذا حل محل وزير البيئة، والذي هو بدوره ليست النفايات من عمله، بل عمله وضع الأنظمة والمعايير البيئية، وليس التلزيم. فكانت لجنة تتبع لجنة معلناً أنه سوف يطبق النظام المثالي لمعالجة أزمة النفايات، نظام قد تتبعه الدول الاسكندينافية لجودته، لكن هذا سيكون بعد 18 شهر، وفي هذه الأثناء نبقى على حالنا، نجمع ونطمر النفايات، من دون أي معالجة أو فرز. وكانت قصة المطامر بعد سمسرة الأراضي من عكار إلى الجنوب إلى الجبل إلى البقاع إلى الشمال... وظهر شهيب على الإعلام ليزف نبأ الحل.
فجأة يعود شهيب ليقول أن الخطة لا تعمل! وعدنا إلى صيغة الترحيل التي كانت تقال على سبيل النكتة.
وأخيراً، وليس آخراً، اجتمع مجلس الوزراء، لمدة 4 ساعات، وتوافقوا على قرار ترحيل النفايات وحسب ما فهمنا لم يتوافقوا على شيء. وافقوا على مبدأ التعاقد مع شركات من دون دفتر شروط، لكن سوف نعمل على دفتر شروط، ترحيل النفايات إلى أماكن لا نعرف أين وجهتها، علماً أنه وفقاً للمعاهدات الدولية التي وقع عليها لبنان، هناك مواد لن تكون موجودة ضمن النفايات المرحلة، شركات "أجنبية" ولِدت فجأة وبقدرة قادر الأشخاص الأساسيون فيها ليسوا بغرباء عن أهل السلطة السياسية في لبنان...
هذه الأمور مجتمعة تثير الريبة كما لو أن كل ما يجري، في كواليس أهل السلطة، ومن تصريحاتها، أن هناك مسرحية لتغطية شيء آخر أي أنها عملية إلهاء حتى تنضج الطبخة وقد تكون العودة إلى توليد كل زعيم "سوكلينه" قائمة على تقسيم المناطق من جديد والعودة إلى المحارق لأنه يصعب تصديق رواية ترحيل النفايات.
وإن رحلت أيضا سوف يستكمل نهب المال العام، صندوق البلديات المستقل، كون البلديات سوف تدفع جزءاً من كلفة الترحيل، وبهذا عليها أن توقع عقداً، بذلك ولا يحق لمجلس الوزراء، أو لأي وزير، أن يقول على البلديات أن تدفع، وهنا تقع المسؤولية على البلديات لوقف سرقة أموالها، المال العام، وإلا كانت متواطئة مع السارق وليحاسب كل عضو فيها. وبالنسبة لمقولة أن الدولة سوف تدفع، من أين ستدفع؟ المواطن هو الذي سيدفع كلفة الترحيل، عبر فرض الدولة المزيد من الضرائب أو الرسوم.