كلمة: موريس نهرا غريغوار حداد مطران الفقراء والعلمانية
رحيل المطران غريغوار حداد، هذا الإنسان الرمز في الكنيسة والمجتمع، شكل خسارة لجميع العاملين من أجل الإنسان، وحقوق الفقراء، ولتيار العلمانية، وبوسعي القول خسارة للكنيسة أيضاً، التي استوحى دورها من سيرة المسيح ورسالته، معتبراً أن الطبيعي هو أن تكون الكنيسة أمينة لها.
لقد كان هذا المطران بفكره وقناعته منطلقاً من القيم الإنسانية التي دعا إليها السيد المسيح، معتبراً أن تجسُّد المسيح بإنسان هو تأكيد لتقديس الإنسان، وأنه وفقاً لذلك يتحدد دور الكنيسة وآبائها. وكثيراً ما ردّد القول بضرورة الاهتمام بكل إنسان وبكل الإنسان. وارتباطاً بتحسّسه وجود فقر وحرمان ومظالم في لبنان، وإدراك أسباب التناقضات والصراعات والنزاعات الدموية المتكررة التي تنبع من طبيعة نظام المحاصصات الطائفية، كان يدعو ويعمل لتبني العلمانية ونصرة الفقراء والمحتاجين ومناهضة العنف، وإقامة دولة المواطنة والعدالة الحقيقية التي تساوي بين الناس في الحقوق، بديلاً لما هو قائم. وكان على قناعة راسخة بأن عمله هذا لا يتعارض مع كونه مطراناً في الكنيسة الكاثوليكية، بل على العكس، تجسيد لفهمه جوهر رسالة المسيح.
فقد كان مفهومه للكنيسة أنها ليست جدرانا وطقوس، بل الناس.. الإنسان.. الرعية.. وقد أتت توجهات المجمع الفاتيكاني الثاني في النصف الأول من الستينيات لتعلن توجهات جديدة تدعو إلى انفتاح الكنيسة على المجتمع والاهتمام بقضاياه وبخاصة فئاته الفقيرة والمحتاجة.
إلا أن ما جرى إزاء الأفكار الإصلاحية للمطران الراحل، هو عكس ذلك، فقد تعرض لحملة ضغوط وتدابير عقابية من رجال ومواقع في الكنيسة نفسها. لكن إبعاده عن مطرانية بيروت، لم يُبعده عن الناس. فقد ثابر في العطاء مواصلاً دوره النضالي وفق قناعته، كتابة وشفاهةً، فأُطلق عليه بحق، لقب مطران الفقراء والعلمانية.. المطران الأحمر. وعندما امتدت الحرب الأهلية إلى عاليه وجبل لبنان الجنوبي عام 1976، وشعر بتقلص دورة الحياة الطبيعية، وتعطل معظم دور الدولة، اندفع للمشاركة في عمل الإدارة الشعبية التي تشكلت لسّد النقص وتلبية الحاجات الملحة للأهالي، والذي كان كمال جنبلاط رئيسها، والمطران غريغوار منسقاً لها، وكنت أنا كاتب هذه السطور أمين السر فيها. وقد شملت خدمتها جميع سكان منطقة الجبل، بدون تمييز طائفي أو عائلي.
إن ظاهرة غريغوار حداد لم تكن مقتصرة على لبنان، فقد برزت في توجهات وعمل تيار لاهوت التحرير في بلدان أميركا اللاتينية، الذي انطلق من اعتبار أن المسيح هو مسيح الفقراء قبل كل شيء، وأن على أتباعه وكنيسته مناصرة الفقراء وقضاياهم، متلاقين في ذلك مع من يناضل من أجل حقوقهم وتحررهم من الفقر والبؤس ومن النهب الخارجي. وقد تعرضت شخصيات كنسية بارزة هناك أيضاً، للضغوط والعقاب، بينهم على سبيل المثال، مطران كنيسة اسونسيون، عاصمة الباراغواي فرناندولوغو، الذي جرى إبعاده عن العاصمة إلى مطرانية في منطقة ريفية نائية، ثم من الثانية، ليصبح بدون رعية، بسبب متابعة عمله مع الفقراء وقضاياهم. وعندها وبدافع مواصلة عمله نفسه، تخلىّ عن ثوب الكهنوت، ووصل بعد ذلك، عام 2007، إلى رئاسة الجمهورية بأصوات الفقراء واليسار. أمّا ما جرى في السلفادور فهو جريمة موصوفة باغتيال رئيس أساقفة عاصمتها سان سلفادور، اوسكار روميرو، الشخصية البارزة في تيار لاهوت التحرير، على يد منفذين من "الكونترا" المدعومة من المخابرات المركزية الأميركية. وقد مارست قيادة في الكنيسة على وزيرين في الحكومة الساندينية في نيكاراغوا، من تيار لاهوت التحرير، ضغوطاً ليستقيلوا منها، بحجة أن طابع نهجها ماركسي. فكان جوابهما، على التهديد بالحرم الكنسي إذا لم يستقيلا، "أن شعبنا هو الذي يقرر حرماننا أو العكس." واستمروا في مواقعهم وخدمة شعبهم.
بالطبع لا تستطيع الكنيسة ومؤسسات الأديان الأخرى، أن تنفصل عن مجتمعها، وإلا تصبح جسماً جامداً ومنعزلاً.. لذلك نجد في الكنيسة وفي غيرها، شخصيات روحية تولي اهتماماً بالإنسان، وبإيجاد شروط حياة كريمة له وبخاصة بالفقراء، والقضايا الاجتماعية، ومن ضمنها إقامة الدولة المدنية التي تحترم حرية الإنسان وحقوقه كافة ومعتقداته. ومن هؤلاء على سبيل المثال، المطران جورج خضر، الأب مارون عطالله، السيد محمد حسن الأمين، الأب جورج مسّوح، الراحل هاني فحص، المطران الراحل سليم غزال، وقبلاً، العلامة الشيخ عبدالله العلايلي، والخوري طانيوس منعم الذي عُوقب أيضاً، وغيرهم.
لقد تميز الأخ غريغوار، كما أحب أن نناديه، بالإقدام.. والجمع بين الفكر والممارسة، ورأى أهمية تعميم الوعي، وجمع الطاقات، والمشاركة الواسعة للناس، لتحويل الأفكار إلى فعل في الواقع. فأنشأ الحركة الاجتماعية، وفيما بعد، التيار المدني، وعمل من جهة أخرى لتوفير مساعدات لحفر آبار مياه للشرب في قرى محتاجة، ولتشجيع ربات البيوت على أشغال التطريز والصوف... الخ وتسويقهم في معارض، بما يخفف من الصعوبات المعيشية لهنّ. وكان دوره مع معاونيه بارزاً في حملة إسقاط النظام الطائفي، ثم في الحراك الشعبي المدني، لحل مشكلة النفايات، ومكافحة الفساد والمطالبة بإقامة الدولة المدنية الديمقراطية.
لقد ترك المطران غريغوار، رفاق عمل وفكر ومؤسسات، ونمط عمل، وصداقات، تشكل بمجموعها ارثاً ثميناً يتجلى فيه فكره وبَصْمته، ويبقى مثالاً راسخاً ومجسداً حضوره.