قضية: د. روبير عبد الله جورج عبد الله: القضية شعار لمشروع نضالي مستدام
كثيراً ما كتب عن ملف جورج عبد الله السياسي أو القضائي، فماذا عن بعده الإنساني والأخلاقي؟ للوهلة الأولى، يبدو الأمر على جانب من السهولة، بالنظر لما حفلت به حياته من مواقف وآراء، وبالنظر أيضاً إلى شدة ترحاله وتشعب علاقاته، وما يحيط بذلك من أساليب استثنائية في التعامل مع الأحداث والقضايا.
غير أن محاولة جدية لتلخيص ذلك الكمّ المتناثر دونها عوائق جمة، وبخاصة لجهة فصل الجانب السياسي في شخصيته عن سائر الجوانب.
لدى التفرغ لهكذا نوع من الكتابة يحضر كلام للشاعر مظفر النواب، طالما كان تحلو استعادته لدى التفكر في شخصية جورج وأمثاله من المناضلين، إذ قال في معرض تقديمه لقصيدته بحار البحارين "في رموز القصيدة تختلط الذات بالثورة بالمرأة بالشجرة، ذلك لأن النظرة السياسية بالنسبة لي، تعني قضية حياتية عامة".
طبعاً جورج ليس شاعراً ولا أديباً، رغم أنه قضى عمره بين الكتب والمؤلفات الفلسفية والاقتصادية والتاريخية، قارئاً ومناقشاً لكلاسيكيات الفكر اليساري والقومي، من دون إغفال ما استجد ويستجد في رحاب التجارب الثورية الحديثة، لا سيما في ما يختص بأدبيات الثورة الفلسطينية والثورات العالمية وبخاصة في أميركا اللاتينية. ثقافته تلك لم تكن ممهدات لتقديم الوعظ والمحاضرات والندوات، إنما لتأكيد ما كان يقوله دائماً "ليس من العسير دفع الشباب إلى جبهات القتال، بقدر ما هو عسير تكوين كوادر تعرف لماذا تناضل وكيف تناضل وبالتالي أين تقاتل". جورج كان يعتبر نفسه متفرغاً للنضال، لكن ليس من نوع المتفرغين للنضال الحزبي لقاء راتب، وليس حتى من المتحمسين الذين تلهب مشاعرهم قضية طارئة، إنما هو كان يعتبر النضال مشروعاً مستداماً على نمط ما أطلق عليه حديثاً التنمية المستدامة، بمعنى أن القضية شعار لمشروع حياة نضالية مستدامة، نستكمل فيها ما أسسه أو أنجزه أسلافنا، ولا نورث الأجيال القادمة إنجازاتنا فحسب، إنما نسعى لنختط لهم أسلوب حياة نضالية، لعل ذلك يجنبهم التخبط الوجودي الذي عاناه بعض من اختلطت لديهم المفاهيم والقناعات، وامتزجت شكلانيات النضال مع مضامينه الحقيقية في عقولهم وأمزجتهم، وما أكثر ما كان ذلك إبان الحرب الأهلية اللبنانية. لذلك لم ينفك يوماً يركز على مفهوم تحقيق الذات وينادي به. فالنضال لم يكن يعتبره أعمالاً بطولية أو تضحيات تقدم في سبيل قضية، النضال برأيه أو الحياة النضالية هي بحد ذاتها القضية. والمناضل بالتالي لا يضحي بقدر ما يمارس تحقيقاً للذات، فتصبح المهام والممارسات النضالية وسائر العلاقات والتفاصيل علاقات إنسانية حقيقية تحمي المناضل – الإنسان من استلاب العلاقات الرأسمالية لقيمته ووجوده، تلك العلاقات الرأسمالية التي تغرز تصوراتها في صلب بنية المجتمع والعائلة والمدرسة والعمل، وحتى في تكوين نمط خاص للعلاقة بين الأصحاب.
جورج عبد الله الذي يحمل لقب المناضل الأممي اليوم، أي الثائر على منظومة الهيمنة الكونية، والمتمرد على سننها وقوانينها وبالتالي على "موجوداتها الرجعية في المنطقة" على حد تعبيره، نشأ في إطار عائلي محافظ حتى حدود الصرامة، عرف كيف يوفق بين التزاماته الأخلاقية تجاه أهله وذويه من جهة، ونزوعه الثوري من جهة أخرى. انسحب الأمر على سائر علاقاته في مسقط رأسه، فعرف أيضاً كيف يقيم حدود التقاطع والتمايز في مجتمعه المحلي في مرحلة كانت مقاليد السلطة السياسية بيد ما كان يسمى المارونية السياسية، حيث انعقدت خيوط الانتماءات الطائفية على وتر الاشتباك السياسي – الأمني في مطلع الحرب الأهلية، فلم تمنعه شدة انحيازه للثورة الفلسطينية وأحزاب الحركة الوطنية، وانخراطه الدؤوب في مقاومة العدو، لم يمنعه ذلك أبداً من تسخير بعض هذا الانحياز وتوظيفه لصالح التخفيف من أعمال الذبح على الهوية، وهو أمر لا زال في ذاكرة أبناء بلدته ممن كانوا مقيمين أثناء الحرب في بقرزلا ورياق وبحمدون ومرجعيون وفي الكثير الكثير من المناطق التي تعذر آنذاك الدخول إليها والخروج منها.
كان بإمكان من امتلك باللغة السياسية الشائعة نفوذاً بحجم ما تمتع به جورج عبد الله أن يتخرج أمير حرب مثل غيره ممن اشتهروا في كثير من أحزاب وميليشيا الأمر الواقع، لكن الأمر كان خلاف ذلك تماماً، لم يكن لديه شقة في مكان ما "يدير فيها اجتماعاته"، ولا كانت له سيارة "تفرض اقتناءها مهام العمل التنظيمي" كما كان يقول ساخراً وناقماً ومتهكماً، بل كان له رفاق وأحبة في كل مكان، منهم من استشهد، ومنهم من لا زال مخلصاً لتاريخ نضالي مشترك، ومنهم من نقل البارودة من كتف إلى كتف، ومنهم من استمر شكلاً وتبدّل مضموناً، فاستثمر في الحرب كما في السلم. وحال الأخيرين لم يكن خافياً على جورج إذ طالما كان يصف من يصر على النضال، كمن يخالف اتجاه طلاب مدرسة أنهوا عامهم الدراسي و"ضبضوا" كتبهم وعادوا أدراجهم إلى المنازل.
حسن العشرة والمودة انتقلت مع جورج إلى داخل سجنه، وهو ما وثقته شهادة مدير السجن لحظة تقديم إفادته أمام لجنة إعادة النظر بالأحكام في فرنسا. وهناك حيث لا فصل بين السجناء السياسيين وسجناء الحق العام، خيمت روح جورج النضالية على عقول السجناء العاديين، فكان لهم سنداً، وله واقعة مشهودة حين استطاع أن يفرق عراكاً بين السجناء عجزت عن الفصل فيه إدارة السجن. ومثلما عبر مطران القدس مارون عطالله، بمناسبة دخول جورج عامه الثاني والثلاثين، عن احترامه له وعن استهجانه لتنكر فرنسا لمبادئ الحرية والعدالة، كان للمطران الكبير هيلاريون كابوتشي كلمة وصفه فيها بـ"الرجل المثالي" وذلك عندما زاره في سجنه بعد سنوات من اعتقاله. وبالمثل فعَل محاميه ومحامي كبار المناضلين الراحل جاك فيرجيس عندما وصفه في أحد كتبه بـالصديق، ووصف بالمقابل بلده فرنسا بعبارة "عاهرة أميركا"، بل لأجله جاء إلى بيروت وقدّم عرضاً مسرحياً كان بمثابة محاضرة فلسفية في تاريخ القانون مشبهاً محاكمة جورج بمحاكمة سقراط، ولشدة احترامه له وتعلّقه به لم يتمكن من إنهاء محاضرته دون أن يختنق صوته ويذرف دمعتين.
هذا هو جورج عبد الله الذي تتنكر له الطبقة السياسية، وتقدم صكوك الذل للأجنبي، وتكتفي باستعراض فحولتها أمام شبان طالبوا برفع فسادها عنهم وعدم تلويث كرامتهم بزبالتها، هذا هو جورج عبد الله رغم التخلي الرسمي، وكما هو دائماً، يتبنى مطالب الحراك المدني، يتحسس أوجاع الناس وفقرهم وانعدام المستقبل، ومع ذلك لم يخاطبهم بلغة الواعظ، بل بلغة الحرص على ثبات الحراك من ناحية ودرء أخطار ومشاريع تجار الدم من ناحية أخرى.