ضيف العدد: ظافر الخطيب الانتفاضة الثالثة فوق مأزق الخيارات
في الوقت الذي كان العالم منشغلاً ويمارس المزيد من التهميش للشعب الفلسطيني وقضيته، في الوقت الذي كان الواقع الفلسطيني يبدو كأنه مأسوراً محاصراً بخياراتٍ تضيق، مرتبكاً أمام الانهيارات في المحيط، وكل التوقعات تنحو منحى التشاؤم، جاء الغيث، جاء به فتيان فلسطين وفتياته، بقبضات تحمل السكين، والحجر، فصار فعل الطعن والدعس والرجم بالحجارة، فعلاً ثورياً يحرك التاريخ ليصنع أفقاً جديداً عنوانه إما فلسطين وإما النار جيلاً بعد جيل، هكذا تصير الماهيات أكثر انسجاماً مع منطق التاريخ، وعدالة الثورة أكثر إنصافاً وعدالة من كل المنظمات الدولية.
هبة أم انتفاضة، أم مجرد فورة ناتجة عن فعل احتقان متراكم منذ وقع المتنفذون عقد (اوسلو المشؤوم). جدال استهلك الكثير من الوقت لكنه كان بعيداً عن السياقين التاريخي والموضوعي العام، الحالة المتشابكة على المستوى العالمي بتمظهرها الإقليمي والوطني أربكت الوعي فصار كل شيء بلا نهاية أو غير قابل للتصديق.
حقيقتان افرزهما السياقان التاريخي والموضوعي، الأول هو أن الصراع مع العدو غير قابل للاختزال لا عبر اوسلو ولا عبر حل الدولتين، وعليه يمكن الاستنتاج أن الانتفاضات المتواترة عبر الزمن، ما هي إلا تأكيد تاريخي يفيد معنى واحد، حتمي ونهائي، أن الشعب الفلسطيني عصيٌ على الكسر، وأن حل الدولتين هو حل غير واقعي وغير ممكن، حتى ولو اشتغلت فيه كل ماكينة الغرب مجتمعة، حتى ولو قدم العرب كل التسهيلات الممكنة، يمكن وضع الانتفاضتين الأولى والثانية، كأمثلة على هذه القناعة. أما في السياق الثاني(الموضوعي)، فلا يمكن وضع هذه الحركة (الانتفاضة الثالثة)، بعيداً عن الاشتباك والتشابك الذي يعيشه النظام العالمي والتي يفترض أن تؤدي إلى إعادة إنتاج النظام العالمي الجديد، بهذا تكون الحالة الراهنة في فلسطين هي حركة تاريخية. وهو ما يعني حكماً أنها تحمل في داخلها إرهاصات حركة تغيير ثورية لو أنها امتلكت عوامل الإدارة، الإرادة، الإسناد، وهو ما يلقي على البعد الفلسطيني امتلاك روح المغامرة بالتحليل ومن ثم الانتقال إلى صياغة برنامج مهمات وإستراتيجية مواجهة طويلة الأمد، كما يتطلب من القوى الصديقة اعتبار إسناد الانتفاضة وقواها المحركة كمهمة إستراتيجية رئيسية.
إن حركة الشباب الفلسطيني واشتباكه اليومي على كل جبهات المواجهة جاءت في توقيت عبقري مبدع دون أن يكون لأحدٍ الفضل في التخطيط لها أو في تحديد توقيت انفجارها. ميزة هذه الحركة النوعية التي رسمها المشهد الفلسطيني في مداه فوق الأرض الفلسطينية أنها وضعت كل الأسئلة المصيرية أمام امتحان الجواب، من اوسلو إلى المفاوضات كخيار وحيد، من الحل المرحلي إلى التاريخي، إلى دولتين لشعبين، إلى فكرة الدولة الديمقراطية الواحدة.
كان الوضع الفلسطيني بتعبيراته المختلفة يسير في خطه البياني نحو الانحدار، من انقسام عامودي وأفقي إلى مناطق جغرافية منقسمة ومقسمة، من قضية واحدة إلى قضايا تختلف باختلاف الجغرافيا السياسية، إلى مرجعيات ترتهن لخيارات وتوازنات إقليمية ودولية، إلى تراجع الاهتمام الدولي والانهيارات التي قصفت الجغرافيا العربية وأعادتها إلى عهود بائدة، وهي أوضاع كان يستغلها العدو لمصلحة تغيير الوقائع الميدانية من خلال مصادرة الأراضي، بناء المستوطنات وتهويد الأرض الفلسطينية والمزيد من التضييق على جماهير شعبنا الفلسطيني في مناطق الـ48.
لم يكن هناك شك بأن مستوى الإحساس بالقهر والغضب الناتج عن الممارسات العدوانية للاحتلال الصهيوني من جهة وعقم سياسة اللاخيارات الفلسطينية وصل إلى مستوى السؤال متى ستنفجر الحالة الفلسطينية؟ لكن ذلك لم يصل إلى مستوى توقع هذا الشكل من الفعل الشبابي المشتبك بأشكال الطعن والدهس والرجم بالحجارة، بتصميم عالي واندفاعة متناهية، لتعيد للقضية الفلسطينية جوهرها النضالي التحرري.
تفسير هذه الحركة، والارتباك في مداها والجدل حول مسمياتها بين هبة وانتفاضة، بين فورة شبابية لا تلبث أن تهدأ أو مرحلة نضالية جديدة تقضي على ما تبقى من اوسلو وأوهامه، هو ما وقعت فيه القوى والنخب السياسية، التي تباطأت عن فهم واستيعاب ما يحدث وهو ما كان واضحاً على مستوى الحراك السياسي المصاحب للانتفاضة والذي قارب الصفر باستثناء حركة البيانات السياسية والخطب الرنانة. بعد مضي أكثر من شهر على اندلاع المواجهة صار لزاماً تحديد بعض المسائل تحديداً نهائياً.
- إذا كانت الانتفاضة عبارة عن حراك دائم متسلسل ممتد زمانياً وجغرافياً فنحن إذن أمام انتفاضة حقيقية بكل المقاييس.
- إن هذه الانتفاضة انطلقت بمعزل عن إرادات القوى السياسية.
- إن وقود هذه الانتفاضة هم الشباب، وأنهم يمتلكون الإرادة الكافية لمواصلة هذه العملية مهما بلغت من أثمان تدفع كقربان من أجل الحرية والاستقلال.
في حسابات الربح فإن الشعب الفلسطيني في انتفاضته لا يخسر سوى قيوده، فالحالة التي كانت قائمة باتت شبه مستحيلة، وعلى الرغم من الكلفة العالية فإنها خلقت فرصاً وحققت انجازات لم يكن بالإمكان تحقيقها اتكاءً على مسارات التسوية و يمكن استعراض بعض هذه الانجازات:
- عودة الحرارة إلى الصراع الفلسطيني - الصهيوني.
- إعادة تسليط الضوء على القضية الفلسطينية
- وحدة الشعب على قاعدة وحدة المواجهة مع العدو.
- تراجع القصف الإعلامي المتبادل بين طرفي الانقسام.
- كشف وتعرية الممارسات الفاشستية لجيش الاحتلال وقطعان المستوطنين.
- نمو تيار مقاطعة البضائع ليس فقط المنتجة في المستوطنات بل على مستوى الكيان الصهيوني.
- ظهور التيار الشبابي كقائد ميداني ومحرك للفعل الانتفاضي بمعزل عن توجيهات الأطر السياسية.
- تكريس حالة من الخوف وانعدام الأمن في صفوف الكيان الصهيوني.
- تراجع المؤشرات الاقتصادية بفعل الخسائر التي أصابت قطاع السياحة بشكل أساسي.
وهناك أيضاً مخاطر تحيط بالانتفاضة، على ضوء بقائها دون قيادة تدير عمليات الاشتباك وفق تكتيكات واستراتيجيات قادرة على إدامة المواجهة وتطويرها ويجب التعامل بشكل جدي مع مجمل هذه المخاطر بما يؤدي على حماية الانتفاضة، ومن أبرز هذه المخاطر:
- الدعوة لتكتيكات لا تسمح بها موازين القوة الحالية أو تسمح باستغلالها من قبل العدو مثل عسكرة الانتفاضة، فمثل هذا الخيار تم اعتماده سابقا بحيث أدى إلى سهولة كشف عناصر الانتفاضة المحركة والفاعلة والانقضاض عليها.
- بقاء الانتفاضة بدون رؤية سياسية، بسبب غياب أُطر سياسية فاعلة وواضحة قادرة على الدخول بنقاش جدي من أجل إنتاج إستراتيجية فلسطينية موحدة تستطيع توحيد التكتيكات وتطويرها.
- الرغبة باستثمارها على ضوء عدم وضوح موقف السلطة وبقائها على مسافة من العمل الانتفاضي.
- التنسيق الأمني مع الكيان الصهيوني الذي ما زال موجوداً وفاعلاً بشكل أو آخر.
- بقاء وضعية الانقسام بين سلطتي غزة والضفة، على الرغم من توفر فرصة كبيرة لاستعادة الوحدة للحركة الوطنية الفلسطينية.
ومما ما تقدم تبرز سيناريوهات محتملة:
أولاً: استمرار الانتفاضة وتطوير أداء القوى الفلسطينية السياسية، بما يؤدي معها إلى صياغة إستراتيجية فلسطينية واحدة.
ثانياً: أن نكون أمام مبادرة أوروبية، أو عربية - أوروبية، هذه المبادرة قد تكون عامل ضغط على أبو مازن وفريق اوسلو، وقد تتضمن هذه المبادرة بعض المكاسب الوهمية أو الصغيرة، لكنها قد تكون بمثابة السم في ملعقة العسل، فالهدف إنهاء الانتفاضة.
ثالثا: الهروب إلى الأمام، استخدام قوة مفرطة ونقل المواجهات من الضفة إلى غزة، والبطش بالعناصر المحركة للانتفاضة الثانية.
لقد حدثت هذه الانتفاضة بتوقيت عبقري يخلق إمكانية استمرارها وتطويرها بما يجذب قوى أخرى للمشاركة فيها أو لإسنادها، إذ أنها حدثت بتوقيت يتزامن مع الانكفاء الانتخابي الأميركي عن الملفات الخارجية، ومع انهيار فكرة الدولة في العالم العربي، دون أن ننسى مأزق حل "الدولتين" وهو ما يعني أن الظروف الموضوعية التي كانت تؤثر بالقضية الفلسطينية تتحول إلى ظروف تساعد على إدامة التدافع النضالي الفلسطيني في حركته الانتفاضية، وعلى القوى الفلسطينية مجتمعةً أن تكون على مستوى المسؤولية التاريخية، وان تتعامل مع ألف باء الحركة الانتفاضية الفلسطينية بشكل جدي، من خلال إعلان حالة طلاق بائن مع كل الحالة السياسية السابقة التي كادت تودي بالحقوق الفلسطينية في معرض المساومات الدولية والإقليمية.