في ذكرى "الاستقلال"، أين الوطن؟ د.خالد حداده
لو قدر لأجنبي (أو حتى لعربي)، أن يطلع على الجُمل والمفاهيم السياسية التي يتحدث فيها رموز السياسة في لبنان، لو قدر لهم الاطلاع على تصريحات بري، عون، جعجع، جنبلاط، الحريري،... وحاولوا فهم المعطيات السياسية اللبنانية: التوازن، الميثاقية، مصلحة المسيحيين، مصلحة الدروز، الثنائية الشيعية، الزعيم السني الأبرز، المشاركة الديمقراطية الطائفية.... لو قدر لهم الاطلاع عليها لأعتبروا أن هذه المصطلحات إنما هي جزء من اللغات القديمة التي اندثرت وتطلبت العودة إلى مقارنتها بما كان يستعمله شيوخ الصلح بين القبائل المتناحرة في أكثر من منطقة في العالم وخصوصاً في منطقتنا العربية...
ولذلك فليس منطقياً اليوم، الغوص في مناقشة مواقف حول جدول أعمال مجلس النواب وأولوية التشريع وغيرها من معارك طواحين الهواء، التي تخاض من قبل زعامات القبائل السياسية، بعيدة كل البُعد عن مصلحة الوطن ولا تعبّر إلاّ عن التقاطعات التي لا يمكن لأي محلل أن يلاحقها ويتابعها، كونها تتبدل بسرعة حسب تبدل مصالح المتقاطعين...
وبعيداً عنها وبمناسبة ذكرى "الاستقلال"، لا بد من نقاش الواقع اللبناني في عمق تكوينه وليس في المظاهر المعبرة عن أزمة التكوين، بل عن التكوين بحد ذاته، طبيعته وكيفية الخروج منه.
* * *
المشكلة ليست إذن بالخلافات الحالية، التي بدأت تأخذ شكل الكوميديا السوداء، بل هي في الأساس في بنية "الاستقلال" نفسه والتي عادت وتكررت فيما يحلو للبعض تسميته "الاستقلال الثاني". والمنطق يقول أنه في النظر إلى كلا الحدثين، فإنهما حكماً لا علاقة لهما بالاستقلال، كمفهوم سيادي، يشمل الأرض والشعب والمؤسسات بل ربما يصح ما يطلقه ساسة لبنان لهذه الناحية، مستعيضين عن مفهوم الاستقلال، بتعبير "الصيغة".
نعم إنها "الصيغة" التي تتعدل في كل فترة، حسب موازين القوى، الداخلية والخارجية التي تحدد مصالح ونفوذ أطراف الصيغة، وفي كل الحالات لم يكن الشعب، ولا المجموعات هي صاحبة المصالح والنفوذ، بل تحالف فوقي في كل مجموعة وبين المجموعات، في الأول (الاستقلال) كان تحالفاً بين الإقطاع السياسي والبرجوازية اللبنانية وفي الثاني، تحالفاً بين "أمراء الطوائف الجدد والقدامى" وبين رأس المال المالي أي المصارف والشركات العقارية الكبرى وفي كلا الصيغتين الكلمة الفصل هي دائماً "لأصحاب المال"...
ولذلك فالذي يحدد موازين القوى داخل "تحالف السلطة" هو عاملان، الأول هو وزن "الحليف المالي" في كعكة الاقتصاد فإذا تبدل لونه، تبدلت معه مواقع حلفائه في السلطة أو مواقع "المجموعة" التي يمثلها داخل السلطة والثاني هو الحليف الإقليمي الذي له الدور الرئيسي في تحديد طبيعة التوازنات في "الصيغة اللبنانية" التي يُطلق عليها مجازاً اسم الدولة.
فإذا ما اختلّت هذه التوازنات، الإقليمية أساساً والداخلية بالتبعية، فإن التوتر هو سيد الموقف في الحياة السياسية اللبنانية. وإذا ما كان الخلل كبيراً على المستوى الإقليمي فالصيغة أو النظام، متأهب لتحويل هذا التوتر إلى حرب أهلية. هذه الحرب الأهلية التي أصبحت اليوم هي السائدة، كونها أصبحت حرباً مستدامة، بفعل عمق الصراعات الإقليمية وامتدادها الزمني والجغرافي.
* * *
إذن، ما دفع لتكّون لبنان بشكله الحالي، لم تكن عبقرية رياض الصلح وبشارة الخوري، ولا حتماً فلسفة شارل مالك وميشال شيحا.
إن نتائج الحرب العالمية الأولى وبشكل أساسي اتفاقية "سايكس - بيكو"، وخلق الكيان الصهيوني والتوازنات الإقليمية والدولية هي التي فرضت هذه "الدولة - الصيغة" وعليه، فإن أي تطور كان يعصف بهذه الوضعية كان ينعكس اهتزازاً لهذه الصيغة فمع تكريس الكيان الصهيوني، حدث اهتزاز أول، ومع بداية حركة التحرر الوطني العربية وما حدث بعد ثورة عبد الناصر، ترافق معه اهتزاز الصيغة وكذلك مع وعي الشعب الفلسطيني لقضيته وانطلاق المقاومة الفلسطينية..
وكذلك الوضع مع اهتزاز الحاجة إلى هذه "الرقعة الجغرافية" كمركز مالي وحيد في الشرق الأوسط وكذلك كوسيط تجاري أول، كان الوضع السياسي والأمني في البلد يهتز...
والحق يقال، أن هذه الإهتزازات وما يليها هي التي تُعلم بعض الساسة اللبنانيين الرقص السياسي، والتقلبات السياسية بما يعتقدونه ركضاً وراء التغيرات، في سبيل مصلحتهم أو مصلحة "جماعاتهم الطائفية"..
واليوم، وفي الوقت الذي تطرح فيه نظرية الشرق الأوسط الجديد و"سايكس - بيكو" الثانية. طبيعي أن نرى الصيغة اللبنانية في مهب الريح، والذكاء أو التذاكي السياسي لمن يتولون مهمة الدفاع عنها لم يعد كافياً ولا مناسباً لأنقاذها. في هذا الإطار، فإن حجة الوضع الاقتصادي والمالي المستعملة كتبرير عقد الجلسة التشريعية، تكشف مسؤولية أصحابها.
فالأزمة الاقتصادية والمالية والدين العام، يتحمل مسؤوليتها من يدعي اليوم الحرص. فالدين الذي بلغ 100 مليار دولار يتحمل مسؤوليته السياسة الاقتصادية والمالية لسلطة ما بعد الطائف وسلطة ما بعد "الاستقلال الثاني"... فالهدر في المشاريع وخصخصة القطاعات ذات الربحية، وإطلاق سلطة المصارف والخضوع لها والسياسة الضريبية المتجهة لنهب الفقراء والموظفين والمعلمين والعمال وإعفاء الشركات العقارية الكبرى والمصارف من الدين، والشراكة في سرقة الأملاك العامة وإلغاء الرقابة المالية ومفاعيلها وعدم القدرة على وضع موازنة عامة. هذه العوامل هي التي وضعت البلد في أزمة. يضاف لها الفساد الذي لم يعد يحتاج لأي دليل والذي يتورط فيه كل أطراف السلطة واتباعهم وهو الذي يهدر حسب إعتراف أحد رموز السلطة (وهو يعتبره هدر طبيعي) 40% من المال العام.
ولذلك فكل إدعاء بوضع البنود المالية على جدول الأعمال لأنقاذ الوضع المالي، هو مسلسل جديد لتشريع الفساد وزيادة المديونية. وهنا بكل بساطة استغراب لحماس البعض لتمرير مشاريع كانت جزءاً من (باريس 3) وبالتالي هي استجابة لإملاءات الصناديق المالية الدولية وتكرار لفقدان السيادة، يشبه إلى حد بعيد المس بالسيادة القضائية عبر المحكمة الدولية.
وبالخطورة ذاتها، يأتي رفض عقد الجلسة انطلاقاً من شعار مصلحة "المسيحيين" والعودة إلى أجواء "الحلف الثلاثي" والشحن الطائفي والمذهبي الذي يبدو أن البعض يجده اليوم أكثر "ربحية" من شعارات العلمنة والدولة المدنية والإصلاح والتغيير. وأكثر المواضيع دلالة هو بعض النقاش حول قانون الجنسية. فلا يمكن لأحد أن يكون ضد استعادة اللبنانيين لجنسيتهم. ولكن الأولوية تكون لبناء وطن يفتخر به هؤلاء إذا ما استعادوا الجنسية، لا إلى قبائل متناحرة متجمعة ومتحاربة في رقعة جغرافية. ومن ناحية أخرى فإن استعادة روح التعصب والعنصرية والعداء للعروبة ولتكريس التمييز بين المرأة والرجل هي ممارسة تنضج جوهر الموقف الطائفي لمن يرفض إعطاء الجنسية لأولاد من أم لبنانية.
* * *
بإختصار، فإن التصدي لتأثيرات الوضع الإقليمي وتقلباته، لا يمكن أن تتم بقيادة من هو نتاج هذا الوضع وهذه التقلبات. بل عبر صيغة جديدة تؤدي إلى تكوين موازين قوى داخلية تنطلق من مسؤولية النظام الطائفي عن الوضع الحالي بكل تجلياته الأمنية والسياسية والاقتصادية والإجتماعية. ومن قناعة أن تحصين الوطن ينطلق من الإيمان به كوطن وليس كساحة للتحاصص بين الأطراف الداخلية والإقليمية ومدخل ذلك هو بناء الدولة المدنية الديمقراطية الذي لا يمكن أن يتم إلاّ عبر قانون للإنتخابات خارج القيد الطائفي وعلى أساس النسبية والدائرة الواحدة.
الأمل ما زال موجوداً، عبر تفعيل الحراك الشعبي وارتقاء شعاراته وصولاً لإنتاج مؤتمر وطني للإنقاذ، يكون هو الأساس في إقرار دستور جديد بصرف النظر عن مجلس القبائل المتصارعة وإجتماعاته.