مع الحقيقة: سمير دياب بناء الوطنيات المحطمة
مطرقة الأنظمة في منطقتنا العربية طحنت الحركة السياسية واحتكرتها، وهشمت العمل الديمقراطي واعتقلته. وحولت الصراع على السلطة والاستحواذ عليها الى أولويات فرضت خلالها أجهزة وأدوات قمعية كانت من نتائجها إحداث خواء سياسي شامل على المستويين الوطني والقومي. فبدل أن تحدث هذه الانظمة خطوة متقدمة في بناء نظم سياسية ديمقراطية مستقلة تراجعت خطوات إلى الوراء في بناء الإنسان والمجتمع.
أما سندان التطرف والإرهاب الذي نما بفعل فاعل إستعماري إمبريالي، وأنتشر بسحر إرتباطات الجماعات المتطرفة، فمنهجيته لا تتضمن بناء مشروع سياسي وطني. إنما بناء سدود مانعة لقيام مثل هذا المشروع. وبالمثل: فليس بإمكان نظم البرجوازية التابعة القائمة المدنية منها والعسكرية أن تنتج مثل هذا المشروع. ليس بسبب التماثل في ما بينهم، بل، بسبب النتائج المحققة. كما لا تستطيع فكرة "الديمقراطية" التي انتشرت في أوساط الرأي العام أن تصبح مشروعاً بديلاً لوحدها من دون النضال وفق مشروع تحرري شامل، ومحاربة المشروع الإمبريالي الإستعماري الذي لم يغادر المنطقة بالاساس.
اما "القومية" فلم تعد تملك حظوظا أفضل في توفير مثل هذا المشروع. بعد أن حولتها النظم الفئوية الحاكمة إلى شعار أيديولوجي لتبرير تأبيد سيطرتها الجائرة التي تفتقر لكل مقومات الكرامة والحياة والتطور.
ولم يشذ الفكر الإسلامي عن قاعدة أنه أصبح بدوره، مورداً للعديد من نظريات الصراع على السلطة والحكم، بعد أن دخل في مأزق تنازع المذاهب وتكفير بعضها البعض، عدا عن ارتباط ذاكرة الرأي العام بتجارب حكم " الاخوان المسلمين" في تونس ومصر، أو بعصابات الإرهاب والتطرف الاصولي الديني المستولدة من رحم "مشروع تفتيت الشرق الاوسط الجديد"، حيث نعاصر أهوال تخلف أفكارها وأفعالها، ولا سيما بعد اعلان ما يسمى بدولة "داعش" في العراق وسوريا.
هذا الخواء الفكري والسياسي والثقافي الوطني هو الذي يفسر بقاء النظم المفتقرة لأي مبدأ أو قانون، سوى حفظ مصالح القائمين عليها وتعظيمها، وهو الذي يشكل التربة الخصبة لنمو الفساد وتفاقمه. ففي غياب أي مشروع وطني جامع، بل غياب الشروط التي تمكن من بناء مشروع سياسي تعطيه الصدقية وإمكانية التحقيق، يمكن لكل أصحاب المشاريع الشخصية والفئوية الصغيرة أن يجدوا مجالاً واسعا لمغامراتهم العجيبة. المشاريع الجزئية ما تحت الوطنية التي تنمو وتزدهر مع غياب المشروع الوطني.
فالمستبدون والانتهازيون والطامحون يستثمرون الخواء القائم، كما يستثمرون التدخلات الخارجية ليخضعوا العام للخاص باسم العام، ولتزدهر الحروب.
المنطقة في قلب بركان النار والتدخلات الاقليمية والدولية. مرة، يعلو صوت المعركة، ومرة ثانية يعلو صوت الديبلوماسية، في الحالة الاولى الشعوب الفقيرة تدفع الاثمان. وفي الثانية يجري تحضير "الطبقات العاملة" نفسها، لتدفيعها أثمان فقرها بالتسويات الخارجية.
*****
عود على بدء. من أجل تغيير قواعد اللعبة والشروط القائمة، لا بد من تعديل موازين القوى، عبر التأكيد على خلق إطار لحركة تحرر وطني عربية، هذا الطرح لن يتقادم ولن يموت، لا بل، يتجدد، مع تجدد، كل حراك شعبي في الشوارع والميادين الوطنية الذي يشكل قاعدته الصلبة، والعمل على بلورة إستراتيجيات لهذا الإطار، تهدف إلى إعادة بناء ما تهاوى من هذه الحركة، وإستعادة الاحساس بوجودها، كمشروع إنقاذي بديل، والاهم هو ثقة الناس الفقراء بإطارها ومشروعها. على ضوء ذلك يمكن إعادة بناء الوطنيات المحطمة وتجاوز جمع الكسور الاجتماعية والطائفية والمذهبية والإثنية تحت مظلة المشروع.
تستدعي إعادة بناء الوطنية المسلوبة، فكرةً وسلوكاً، واستعادة هويتها، وتحرير استقلال المجتمع عن سيطرة القوى الخارجية، وسيادته تجاه جميع القوى وشبكات المصالح الخاصة المحلية، وتوسيع دائر ة المشاركة الوطنية في بناء نظام قائم على احترام مبادئ المساواة والعدالة الاجتماعية … التي لا يمكن قيام رابطة سياسية من دونها. وهو ما يجمع تحت اسم نظام الديمقراطية. والحال أن مشروع الديمقراطية لا يولد في الفراغ السياسي والاستراتيجي. فهي جزء من مشروع سياسي عربي شامل. وهو المشروع التاريخي الوحيد المفضي للإنتقال من حالة الالتحاق والتقسيم والتبعية الى حالة الاستقلال والتحرر الوطني. ومن حالة الفقر والدين والموت الى حالة النمو والتنمية والتقدم .
ليس هناك أي مشروع آخر. فالبدائل المطروحة لا تبشر بمستقبل. والمشروع يحتاج فعلا الى طروحات طبقية ثورية من حامليها، لتعديل الشروط الداخلية والخارجية، حيث لا تقدم من دونها. وبانتظار ذلك، تستمر الامبريالية العالمية وعولمتها المتوحشة في دفع المجتمعات إلى مزيد من الحروب الداخلية والتهميش، وتقضي على حلم التجديد والتغيير. يكفي مشهد الموت الذي يعم المنطقة العربية، من فلسطين والعراق وسوريا ولبنان واليمن وليبيا..الخ، والخراب الذي يلف البلاد الأخرى من دون تمييز.
أما إعادة بناء المجتمعات على أسس وطنية جامعة، فيستدعي تغيير المناخ الثقافي في المنطقة، ووضع حد لانتشار طاعون الجهل والتطرف الديني، وهذا من صلب عمل قوى الشيوعية واليسارية والديمقراطية. فليس هناك أمل في تقدم عملية التحويل الثقافي الوطني، مع استمرار السياسات الامبريالية العدوانية التي تستثير العنف المقابل، وتدعم نمو ثقافة الاحتجاج أو الخنوع والإنتقام، هذه المنهجية تبغي عزل قوى التغيير الديمقراطية من الداخل الوطني عبر خلق بدائل هشة وممسكوكة، أو عبر دعم أنظمة الهياكل القائمة لمنع احداث التغيير الديمقراطي الجذري.
للمقاومة الوطنية وجه آخر، هو ثقافتها، التي تهدف إلى فك قيود الشعوب المضطهدة من الخوف والاستلاب، وتعزيز الثقة بقدراتها على خوض معركة تحريرها وتحررها من ظلم طغاة أنظمة القهر والقمع والموت، واستعباد طغمة الرأسمالية