الحراك الشعبي... والتأسيس للدولة المدنية د. ماري ناصيف - الدبس
يتابع الحراك الشعبي، للشهر الثاني على التوالي، تقدّمه، مخترقاً كل الحواجز التي حاولت الطغمة المالية اللبنانية – متمثلة بالسلطة السياسية – وضعها أمامه، بدءاً من شن حملات النميمة المتعددة الأطر والاتجاهات على بعض أطرافه ووصولاً إلى استعادة أساليب القمع والاعتقال والملاحقة والتهديد بلقمة العيش...
واستمرار الحراك، على الرغم من كل المخاطر التي تعرض لها ناشطوه ومن الهجوم الذي يشن على حاضناته السياسية، إنما يأتي كنتيجة حتمية لصنوف المعاناة التي يعيشها الشعب اللبناني منذ انتهاء الحرب الأهلية، وفشل اتفاق الطائف، الذي تحوّل إلى دستور للجمهورية "الثانية"، في تنفيذ الاصلاحات السياسية الضرورية واقتصاره على إعادة تنظيم التوازنات الطائفية داخل السلطة، وما أدى اليه من تعطيل لكل المؤسسات الدستورية التي أصبحت عاجزة عن الخروج من أزمتها وايجاد حلول ثابتة لها. وخير ما يدل على استعصاء الأزمة هو "طاولة الحوار" الجديدة التي أتت على وقع الحراك ونتيجة له، والتي لم يستطع منظّمها والدافع اليها – رئيس مجلس النواب – أن يقرّب وجهات النظر الخلافية بين مكوناتها، علماً أنه لم يترك باباً إلا وطرقه في هذا السبيل.
إذاً، الحراك مستمر، بل ومتصاعد. وشعاره واضح باتجاهيه، الاقتصادي – الاجتماعي والسياسي: "نحو دولة مدنية، دولة للرعاية الاجتماعية".
ماذا يعني هذا الشعار والى ماذا يهدف؟
بالعودة إلى اتفاق الطائف وانعكاساته الحاضرة اليوم، تجدر الاشارة الى أن المحاصصة الطائفية تجذّرت في النظام السياسي اللبناني الى حدّ تحوّلت معه الإدارة العامة، وكذلك الخدمات الأساسية التي يقدّمها القطاع العام، الى مجالات للمكاسب والمنافع توزع بين أطراف السلطة وأزلامهم ومحاسيبهم. ونخص بالذكر الكهرباء والمياه والنفايات التي تشكّل لكل هؤلاء مجالاً واسعاً لجني الأرباح الطائلة، من خلال الصفقات التي نظمت حتى الآن تحت شعار اصلاح وضع هذه الخدمات المهمة. صفقات تمت عبر المساعي المبذولة، منذ عشرين عاماً، لخصخصة القطاع العام، بحجة أن القطاع الخاص أكثر حيوية ويمكنه ايجاد الحلول السحرية لمشاكل مزمنة، ومستعصية بالتالي؛ هذا، في وقت يتسع فيه وضع اليد على الأملاك العامة، وبالتحديد الأملاك البحرية، وتعيث المافيات المدعومة من أطراف السلطة فساداً في البيئة والصحة والتعليم. وبينما تزداد روائح الهدر والفساد في المرافق العامة والخاصة، ويزداد معها رهن البلاد لسلطة المصارف الكبرى والشركات المالية، عبر الدين العام المتصاعد دون توقف، نرى بالمقابل ازدياد أعداد الذين انهارت أوضاعهم الى ما دون خط الفقر، وبالتحديد الشباب والنساء، في وقت تضاعفت فيه الأعباء الاجتماعية بفعل وصول مئات آلاف المهجرين - الفقراء أيضاً وأيضاً - إلى لبنان، وما تركه هذا الأمر من انعكاسات مأساوية، خاصة في المجالين الاقتصادي والبيئي.
كل ذلك يتم، في ظل انفجار أزمة النظام المستعصية على الثنائيات والمثالثات وكل الأشكال الحسابية، والمنتظرة الفرج والرحمة مما تحمله لها الرياح الآتية من جبهتي الخليج، من جهة، ومن المتاجرين بالأزمة السورية، من جهة أخرى، ومن ورائهم أصحاب نظريات "الائتلاف الدولي" و"التحالف الأمني" لمواجهة الارهاب الذي أنتجوه هم أو أفسحوا المجال أمامه لكي يقضي على ما عبّرت عنه انتفاضات الشعوب العربية التي انطلقت من تونس ومصر لتعم المشرق والمغرب تحت شعارات فك التبعية والخلاص من التخلف والفقر... دون أن ننسى القضية المركزية، أي فلسطين.
رب قائل أننا، بطرحنا هذا، نوسع كثيراً رقعة المشاكل بما يساعد على ابقاء الاستعصاء في التوصل الى حلول. إلا أننا نرى أن فهم الوضع وتوضيح الصورة يساعدان، بدون أدنى شك، على ايجاد الحلول المتدرجة والدائمة لمشكلات تبدأ بالنفايات ولا تنتهي بقانون جديد للانتخابات، وإن كان خارج القيد الطائفي وعلى أساس النسبية. ذلك أن الدولة المشلولة بفعل نظام عاجز لا يمكن اعادتها الى الحركة والحياة، بل يجب التفكير ببديل لها، يختلف عنها في الجوهر والنوعية. من هنا، نرى في الحراك الشعبي مقدمة لاستحضار صورة جديدة للدولة، تنطلق معها مرحلة انتقالية يمكن لها أن تؤسس للحل الجذري.
مقدمة، إذاً، وليس حلاً شاملاً ونهائياً
فبالعودة إلى الشعار المطروح من قبل مكونات الحراك الشعبي، نرى أنه يحتوي على اصلاحات حقيقية ومهمة، حتى وإن كانت متفاوتة الحجم والأهمية، انما لا يطرح التغيير الجذري، أي إلغاء النظام القائم واستبداله بنظام آخر. هذا، عدا عن أن أغلبية القوى السياسية المنخرطة فيه، وباستثناء بسيط، لم تحدد بعد مواقفها من عملية التغيير وموقعها ضمنها.
فالشعارات البرنامجية المطروحة ضمن الهدف الأول، نظام الرعاية الاجتماعية، هي شعارات مطلبية، لا يؤثر تحقيقها على النظام الاقتصادي- الاجتماعي المعمول به. ويمكن تلخيص الشعارات الأساسية بالآتي:
- استعادة البلديات لحقوقها ومنع المحاصصة في مسألة بأهمية مسألة النظافة، بعد محاسبة من أغرق البلاد في النفايات رغم ماغرفه من المال العام والذي يقدّر بمئات ملايين الدولارات.
- بحث الحلول الناجعة لمنع تلوث البيئة ومعالجة مسألتي الكهرباء والمياه.
- تأمين الرعاية الصحية الى جانب حق العمل والعلم والسكن وغيرهم.
- سلسلة الرُّتب والرواتب ودورها في الحفاظ على القطاع العام وتطويره.
- حقوق الشباب في العلم والعمل ومنع الهجرة.
- حق المرأة اللبنانية في اعطاء جنسيتها لأولادها... الخ.
وإذا انتقلنا إلى تحديد الدولة المدنية، فالاتفاق على مدخلها الأهم، قانون جديد للانتخاب (والبعض يتحدث عن إعادة إنتاج السلطة ديمقراطياً)، يتوجه نحو مسألة النسبية بشكل خاص، بينما المسألتين الأخريين، إلغاء الكوتا الطائفية ولبنان دائرة واحدة، لم تحسما بالكامل. أما مسألتي سن الانتخاب والكوتا النسائية، المكملتين، فلا بد من لفت النظر لهما لما لهما من أهمية في مجال تصحيح التمثيل، المختل، خاصة لجهة اشراك هاتين الفئتين، المهمشتين حالياً، في صنع القرار السياسي.
هذا الاختلاف في النظرة الى الحد الأدنى للبرنامج المطلبي، وفي سقوف المطالب المطروحة عموماً، وصولاً إلى الحل المنشود، لا يشكّل خلافاً جوهرياً لا يمكن تجاوزه؛ بل انه، في جوانب منه، يعبّر عن مواقف، صحيّة، بين قوى اجتماعية ذات مواقع مختلفة في عملية الإنتاج، من جهة، ولها خلفياتها الفكرية والسياسية التي ليس بالضرورة أن تؤدي الى فهم موحّد لطبيعة المرحلة وكيفية الاصلاح بالتالي. هذا، عدا عن أن الرؤية من زوايا مختلفة يمكن لها أن تساهم في وضع آليات متعددة للحل المرحلي يمكن لها أن تؤتي ثمارها في توحيد النظرة اللاحقة الى الدولة المنشودة وأسس بنائها...
إلا أننا، إذا ما أخذنا بالاعتبار حتمية أن يتعمّق الحراك بعد انخراط الحركة العمالية فيه، أو بالأحرى بعض أدواتها النقابية غير المرتهنة لأطراف السلطة، فإن هذا التطوّر يدفعنا للاعتقاد أن سقف النضال المطلبي، وحتى ببرنامجه الراهن، سيرتفع باتجاه الدفاع عن مصالح الفئات الكادحة وحقوقها؛ وسيؤدي، بالتالي، إلى فتح الأفق واسعاً أمام التغيير، الذي نراه، أولاً وأخيراً، في تحجيم سيطرة الطغمة المالية سياسياً واقتصادياً، بالترافق مع إعادة بناء الصناعة والزراعة، وتنظيم الإنتاج الوطني وحمايته والبحث في الخروج من تحت سيطرة المؤسسات الرأسمالية العالمية واملاءاتها.
هذا لا يعني أن الحراك الشعبي ليس بحاجة للكثير من العناية، خاصة لمنعه من الوقوع في حرق المراحل. وهذا يتطلب إعادة درس التحركات السابقة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، منذ العام 2011 على الأقل، والأسباب التي أدت الى ضرب بعضها وعدم تمكّن البعض الآخر من تحقيق أهدافه الأساسية... مع الانتباه إلى أن "الطبقة السياسية" المسيطرة لم تستخدم كل ما في جعبتها من أسلحة، وبالتحديد محاولات الانخراط في التحرك لتفجيره من الداخل، عبر زرع الخلاف بين أطرافه. فحملة الدس الإعلامي المستمرة، والمترافقة مع تحرك بعض السفارات المعروفة، تلتقي حالياً مع مزايدات بعض رموز الفساد الذين يدّعون "العفة" ويدعون الى المساءلة والمحاسبة، ومع حملات بعض الأجهزة وبعض القوى السياسية الطائفية التي تحمل، اليوم، لواء "الدفاع عن لبنان بوجه اليسار"، في وقت لم نسمع نعيقها عندما احتل الكيان الصهيوني لبنان، أو عندما كان العدوان الإسرائيلي يقتل الأطفال ويهدم البيوت والمنشئات الحيوية.
من هنا نستعيد شعار المقاومة ضد العدو وفي الدفاع عن انجاز التحرير بالتغيير.
بهذا الجمع النوعي نضع الأساس المتين للحكم الوطني الديمقراطي الذي أصبحت شروطه الموضوعية ناضجة.