دوليات ضبابية المشهد الانتخابي في اليونان وليد نسيب الياس
بعيد تسديد الحكومة اليونانية برئاسة رئيس حزب اليسار "الكسيس تسيبرس" بتاريخ 20 آب الماضي 26 مليار يورو كمستحقات لصندوق النقد الدولي والمصرف المركزي الأوروبي ولإعادة رسملة المصارف اليونانية، استقال "تسيبرس"، دافعاً الأحزاب إلى خوض غمار الانتخابات البرلمانية المبكرة بتاريخ 20 أيلول الجاري، في ظل أجواء ضبابية تخيم على حزبه "سيريزا" بسبب معارضة 25 نائباً من رفاقه اليساريين والشيوعيين القدامى إبرام حكومته لعقد الاقتراض الثالث بدعم من حزبي الثنائية الحزبية (اليمين والاشتراكية الديمقراطية) السابقة التي حكمت البلاد على مدار أربعين عاماً.
وجاءت تداعيات استقالة "تسيبرس" بسرعة البرق، فقد أعلن النائب والوزير السابق "بانايوتي لافازاني" في حزبه تشكيل حزب "الوحدة الشعبية" الذي جمع 25 نائباً وقيادات يسارية بارزة، لتنضم إليه لاحقاً رئيسة البرلمان اليوناني "زوي كوستندبولو" (30 عاما)، من دون أن يفلح في إقناع وزير المالية السابق "يني فاروفاكيس" بالانضمام إليه، بالرغم من قول فاروفاكيس عن أعضاء الحزب الجديد "أنهم اشتراكيون لذا أحبذهم لكن لا اعتقد أن أفكارنا السياسية تتقاطع بين بعضها البعض".
وخلطت استقالة "تسيبرس" أوراق الخارطة السياسية في اليونان التي، كما يبدو، لن تنتج أكثرية برلمانية قادرة على حكم البلاد وتنفيذ معايير عقد الاقتراض الثالث التقشفية. ومن المتوقع دخول حزبين جديدين إلى معترك الحياة البرلمانية، هما حزب "الوحدة الشعبية" اليساري الذي سينال بين 4.5 % إلى 6 %، بحسب استطلاعات الرأي، وحزب "الاتحاد الوسطي" برئاسة "فاسيلي لافاندي" الذي دأب منذ أربعين عاماً على محاربة الثنائية الحزبية، وكانت حينها وسائل الإعلام التابع تسخر منه لأنه كان يتهم كلاً من "اندريا باباندريو" و"قسطنطين كراماليس" بالفساد. ومن شبه المؤكد فشل حزب اليونانيين المستقلين اليميني الشعبي بقيادة شريك "تسيبرس" في الحكومة السابقة "بانوس كامانوس" من الدخول مجدداً إلى حرم البرلمان، بعد نجاحه في عمليتين انتخابيتين متتاليتين، فيما تتساوى حظوظ حزب باسوك الاشتراكي الديمقراطي الانتخابية برئاسة "فوفي يانيماتيا" في دخول البرلمان أو عدمه.
ومن الواضح أن "تسيبرس" لا يزال نجماً سياسياً يحظى بشعبية واسعة ويحمل على أكتافه وحيداً حزب "سيريزا" الجريح، من دون دعم واضح المعالم من تنظيمه الحزبي الذي ورثه رفيق الأمس "لافازاني". وعلى أقل تقدير، سييفوز في الانتخابات بنتيجة تتراوح بين 30 و33%، من دون أن يحظى بالأكثرية البرلمانية التي تتمثل بـ151 نائباً من أصل 300.
وأضحى "تسيبرس" سيد خوض الانتخابات، فهو يعرف كيف يتحكم بزمام اللعبة السياسية والانتخابية، لذا استقال لتحقيق مكاسب عدة، ومنها "تنظيف" البيت الحزبي من معارضيه، وقبل أن يشعر الناخبون بالآثار السلبية لإجراءات عقد الاقتراض الثالث الذي أبرمته حكومته مع المؤسسات الدائنة الأوروبية والدولية بقيمة 86 مليار يورو والتي ستؤدي عاجلاً أم آجلاً إلى تراجع شعبيته، إلا في حال نجاحه بمكافحة التهرب من الضرائب والفساد على حد قوله. كما أراد أيضاً أن يفاجئ رفاقه القدامى الذين انشقوا عن حزبه وقبل أن يفلحوا في ترتيب أمورهم التنظيمية. وسعى تسيبرس أيضاً إلى تفادي استمرار دعم حكومته السابقة من الثلاثية الحزبية المتمثلة بحزب الديمقراطية الجديدة اليميني المحافظ، وحزب باسوك الاشتراكي، وحزب "بوتامي" من يمين الوسط، والذين يحملهم مسؤولية قيادة البلاد إلى الإفلاس وتنفيذ شروط عقود الاقتراض التقشفية. ونفى "تسيبرس" أنباء عن احتمال تشكيل حكومة ائتلافية مع أي من أقطاب الثلاثية الحزبية التي لا تزال رواسب حكمها واضحة في إدارة حكم البلاد.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو مع من سيتحالف "تسيبرس" بتاريخ 21 أيلول 2015، فتحالفه من رابع المستحيلات مع الحزب الشيوعي اليوناني المعارض الذي من المتوقع أن يحافظ على قوته البرلمانية 5.46% مع احتمال ارتفاعها، وكذلك تحالفه مع حزب "الفجر الذهبي" اليمني المتطرف الذي سيحتل المركز الثالث على أقل تقدير بنسبة بين 6.5% إلى 7.5%.
إذن لن يبقى أمامه سوى التحالف مع حزب "الوحدة الشعبية" المنشق عنه والمعارض لخطط الإصلاحات الأوروبية أو حزب "الاتحاد الوسطي"، أو الوصول إلى حائط مسدود والإعلان مجدداً عن انتخابات برلمانية سابعة خلال خمسة أعوام.
وفي المقلب الأخر، يبدو أن أعداء الأمس أي ممثلي النيوليبرالية الأوروبية والرايخ الرابع الألماني والمؤسسات المالية يقدمون الدعم المباشر وغير المباشر "لتسيبرس". فقد ذكرت المفوضية الأوروبية أنها "ليست قلقة" من أن يؤثر قرار إجراء انتخابات مبكرة في اليونان على حزمة إنقاذ البلاد أو تنفيذ الإصلاحات المرتبطة بها، وان نجاحها مرتبط بالدعم الواسع النطاق لعقد الاقتراض الثالث.
من ناحيتها، أكدت الحكومة الألمانية على ضرورة أن تلتزم اليونان بتعهداتها بشأن خطة الإصلاح والتقشف التي حصلت بموجبها على حزمة مساعدات ثالثة بالمليارات حتى عقب إجراء انتخابات برلمانية مبكرة.
وذكرت مؤسسة "موديز" للتصنيف الائتماني أن استقالة "تسيبرس" ايجابية بالنسبة لديون اليونان لأنها تفتح الطريق أمام تشكيل حكومة متناسقة وموحدة، مما يحسن آفاق تطبيق معايير عقد الاقتراض الثالث وتخفيض خطر نفاذ السيولة والتمويل المصرفي.
وأمام هذه الضبابية التي تسود المشهد السياسي في اليونان، سيكون من الصعب التكهن بنتائج الانتخابات كون مؤسسات الإحصاءات أثبتت فشلها في توقع نتيجة الاستفتاء الشعبي في حزيران الماضي وقال فيه الشعب لا "Οχι" بنسبة 61.31% مقابل 38.7% لمؤيدي الإجراءات التقشفية والبرجوازية المحلية التابعة لمركز القرار الألماني. وكما قال القائد الشيوعي اليوناني الراحل "خاريلوس فلوراكيس" يوماً أن "الصناديق حبلى"، ولا أحد يستطيع أن يتحكم بالنتيجة لأن الكثير من المعايير هي التي ستولد حكومة فاعلة أو غير قادرة على إدارة الأزمة المالية المتفاقمة وتنفيذ الإجراءات التقشفية التي تنال من حقوق الشعب في الضمان الاجتماعي ورفع سن التقاعد إلى 69 عاماً أو إلى 71 عاماً ودفع المكلفين لمزيد من الضرائب.
لذا ستكون هذه الانتخابات مفصلية في التاريخ السياسي اليوناني الحديث، وستتحكم بمصيرها الوجوه الانتخابية وليس البرامج التي أضحت صعبة التنفيذ في ظل الواقع الاستعماري المالي الأوروبي والدولي لليونان، وعدد الأحزاب التي ستدخل البرلمان وموقف القوى الأجنبية من نتائجها، وبالطبع يتحكم بها "تسيبرس" الذي خاض تجربة الحكم اليساري لمدة سبعة أشهر من دون أن يتمكن حسب قوله من تنفيذ وعوده المتمثلة بنظافة اليد ومحاربة المحادل الاقتصادية المحلية والأوروبية وملاحقة الجريمة المالية والفساد الذي ما زال متفشياً في البلاد وحل مشكلة النظام التقاعدي ومشكلة البطالة عن العمل التي تصل نسبتها إلى 27%.
من أجل مستقبل اليونان لا بد من إيجاد صيغة ما تجمع اليسار اليوناني إلى جانب الشيوعيين كقوة تحالفية قادرة على قلب موازين القوى وقيادة المرحلة باتجاه إقامة نظام حكم سياسي مستقل تحقق فيه العدالة الاجتماعية.