عن "سوكلين" و"الحريرية" والحراك الشعبي أزمة نفايات تعكس أزمة حكم وسام متى
لم يعد ممكناً حصر الحراك الشعبي في لبنان بأزمة النفايات.
تلك حقيقة ارتقت إلى مستوى البديهية منذ يوم السبت الماضي، حين احتشد الآلاف في وسط بيروت، فارضين معادلة جديدة على الطبقة السياسية، التي تستنزف كل مناوراتها القذرة لترميم هيكلها، الآخذ في التآكل من الداخل.
صحيح أن أزمة النفايات كانت السبب الأساس لانطلاق أكبر حملة شعبية ضد فساد السلطة الحاكمة، إلا أن مطالب الحراك الشعبي، وفي ظل الإنكار المتمادي من قبل الطبقة السياسية لأبسط حقوق المواطن في بيئة نظيفة وصحّية، تحوّلت شيئاً فشيئاً إلى مطالب أكثر عمقاً، بدأت تصوّب باتجاه قلب النظام الطائفي المتآكل.
ومع ذلك، لا بد من الاعتراف بأن أزمة النفايات تكتسب رمزية بالغة في تعرية النظام الطائفي في لبنان، وهو بتشكيلته الحالية، هجين من مافيات أثرياء الحرب وقادة ميليشياتها وبعض القيادات التقليدية، المتمركزة في الوسط بين معسكري 8 و14 آذار.
ولعل رمزية أزمة النفايات تكمن في أنها تمثل انعكاساً لفساد السلطة الحاكمة، ما يجعل سقوط "سوكلين" وأخواتها موازياً بدرجة كبيرة لسقوط رموز الأنظمة الاستبدادية في الوطن العربي، على شاكلة "الحزب الوطني" وشبكة مصالحه في مصر، و"التجمع الدستوري الديمقراطي" وزبانيته في تونس... الخ.
وليس أقل دلالة على رمزية أزمة النفايات، وتلخيصها لسياسات السلطة الحاكمة في لبنان، ما كتبه رئيس "حركة الشعب" النائب السابق نجاح واكيم في كتابه الشهير "الأيادي السود" (1999) عن بدايات فساد "سوكلين"، ومنه نقتبس:
"في مطلع التسعينيات، وضع المحافظ نايف المعلوف خطة لتنظيف العاصمة من جبال النفايات وتنظيم عملية تجميع النفايات المنزلية، بكلفة سنوية قيمتها 1.5 مليون دولار، ورفع هذه الخطة إلى رئيس الحكومة رفيق الحريري للموافقة عليها، إلا أن الرئيس الحريري أهمل الخطة لأنه كان قد أعد مشروعه الخاص لهذه المهمة، مع شريكه ميسرة سكر، الذي أسس شركة سوكلين لهذا الغرض، وبعد مرور وقت قصير، فوجئ المعلوف بتوقيع عقدٍ بين مجلس الإنماء والإعمار وهذه الشركة بقيمة أربعة ملايين دولار، أي ما يوازي ثلاثة أضعاف الكلفة التي وضعها المعلوف، والغريب في العقد هو أن البلدية هي التي سوف تدفع قيمة التلزيم دون أن يكون لها حق مراقبة أعمال هذه الشركة؛ كما منح العقد شركة سوكلين حق استخدام موظفي وعمال البلدية كمياومين لديها على أن تتحمل البلدية تعويضات هؤلاء، والمنح المدرسية والمساعدات المرضية، كما أجاز لها استخدام آليات ومستودعات البلدية لقاء تعويض يبلغ مليارين ومائتي مليون ليرة لبنانية؛ لكن سوكلين لم تسدد هذه التعويضات، ما دفع المحافظ المعلوف إلى توجيه ثلاث رسائل إنذار للشركة بوجوب الدفع، فكان رد سوكلين أن العقد الذي وقعته، قد أبرم مع مجلس الإنماء والإعمار، ولا صلاحية للمحافظ أو للمجلس البلدي بمراجعتها في هذا الشأن".
ويضيف واكيم: "لقد أثارت هذه المشكلة تجاذبات واعتراضات عديدة، مما اضطر شركة سوكلين إلى دفع أقل من نصف المبلغ أي مليار ليرة لبنانية، هذه الحادثة وغيرها كانت من الأسباب التي أدت إلى إزاحة المعلوف من موقعه، والمجيء بمحافظ آخر. وهكذا أصبحت شركة سوكلين، المتعهد الرسمي لرفع النفايات من العاصمة، وأصبح العقد الموقع معها من قبل مجلس الإنماء والإعمار، يجدد تلقائياً عند انتهاء كل سنة، مع فارق أن قيمة العقد ارتفعت في السنة الثانية مباشرة من أربعة ملايين دولار إلى 23 مليون دولار، وفي السنة الثالثة من 23 مليون إلى 45 مليون دولار، مع اتساع نطاق عملها ليشمل حدود بيروت الكبرى أمنياً، علماً أن رئيس لجنة الإدارة والعدل البرلمانية السابق المحامي أوغست باخوس، أكد خلال مقابلة تلفزيونية أن تكلفة رفع طن النفايات الواحد لا تتعدى الـ 4و5 دولارات فيما التزمت سوكلين الطن بـ 45 دولاراً".
لعلَّ هذه السطور تظهر كيف أسس رفيق الحريري لنظام الفساد في لبنان. وللمناسبة، فإن "سوكلين" لا تمثل تجسيداً قذراً للفساد الإداري فحسب، وإنما أيضاً للفساد السياسي، في ظل الحديث المستمر منذ سنوات طويلة عن صندوق "سوكليني" سري دفعت منه ملايين الدولارات كرشى سياسية لهذا الطرف أو ذاك.
وهكذا يمكن القول إن منظمي الحراك الشعبي أحسنوا صنعاً في اختيار أزمة النفايات كنقطة بداية لأكبر حركة احتجاجية يشهدها لبنان ضد النظام الطائفي منذ سنوات، وجعلها منطلقاً لمطالب سياسية، لخصها البيان الذي تلي في ساحة الشهداء ليل السبت الماضي على النحو التالي:
* استقالة وزير البيئة محمد المشنوق.
*محاسبة وزير الداخلية نهاد المشنوق و كل من أصدر الأوامر بإطلاق النار.
* إجراء انتخابيات نيابية جديدة.
* حل بيئي مستدام لملف النفايات في لبنان يتضمن تحرير أموال البلديات من المجلس البلدي المستقل وإصدار نتائج تحقيق المدعي العام المالي.
بذلك، يمكن القول إن كرة ثلج الحراك الشعبي تتعاظم يوماً بعد يوم. ويبدو واضحاً أن إنكار السلطة الحاكمة للمطالب الشعبية المحقة، قد بدأت تدفع باتجاه رفع سقف المطالب المطلبية والسياسية، وصولاً إلى المطالبة بإسقاط النظام السياسي، وهي ظاهرة سبق أن شهدها الوطن العربي، حين تنكر نظام حسني مبارك لحق المصريين في الحرية والعدالة الاجتماعية، ونظام زين العابدين حين تنكر لحق التونسيين بالعيش بكرامة إنسانية، والنظام السوري حين تنكر لمطالب الإصلاح الديمقراطي.
حتى الآن، ينبغي الاعتراف بأن الحراك الشعبي، بمكوّناته المختلفة، قد كسب، منذ يوم السبت 22 آب، جولات عدّة في المعركة ضد النظام الطائفي، وهي معركة يفترض أن تكون طويلة ومعقدة، خصوصاً أنها معركة يفترض أن تحسم نتائجها بالنقاط، وليس بالضربة القاضية، كما يعتقد البعض.
وإذا كان ما حصل منذ ليل 22 آب قد أعاد الثقة بإمكانية إحداث فجوة كبيرة في أكوام نفايات الطبقة السياسية العفنة، إلا أن الحرص على نجاح الحراك الشعبي يستوجب التطرق إلى بعض الملاحظات المرافقة له، لتحديد ما له وما عليه.
1- حسناً فعل المنظمون في اختيار ملف النفايات نقطة بداية للحراك الشعبي، للأسباب المشار إليها أعلاه. لكن لا بد من التعامل مع هذا الملف باعتباره نقطة في بحر فساد السلطة الحاكمة، ما يفرض بالتالي التصدي لملفات أخرى تعشش فيها عناكب الطبقة السياسية، منذ عهد رفيق الحريري، وربما قبل ذلك. (الكهرباء، المياه، الضمان الاجتماعي، البلديات.. الخ).
2- حسناً فعل القائمون على الحملات الشعبية في رفع سقف المطالب السياسية، لكن ذلك يتطلب ترتيب الأولويات ضمن خريطة طريق يبنى عليها النضال التراكمي باتجاه إسقاط النظام الطائفي.
3- حسناً فعل المنظمون في اختيارهم ساحة الشهداء وساحة رياض الصلح بؤرة للحراك الشعبي، بما يعني ذلك إخراج هاتين الساحتين من احتكار فريقي 8 و14 آذار. ولكن لا ينبغي بأي شكل من الأشكال حصر التحركات الشعبية في نطاق مركزي، وهو ما يستوجب توسيع ميدان الحراك الشعبي مناطقياً.
4- حسناً فعل المنظمون في تثبيت الطابع السلمي للحراك الشعبي، برغم تحوّل تظاهرات يوم السبت 29 آب إلى أجواء احتفالية - وهي للمناسبة ضرورية في مقابل الكآبة العمومية التي تسعى الطبقة الحاكمة إلى فرضها على اللبنانيين - إلا أنهم بذلك يخاطرون في جعل الحراك الشعبي مجرّد "كرنفال" أسبوعي و"هايد بارك" ينفس الغضب الشعبي بدلاً من توجيهه بشكل فعال في المعركة ضد النظام السياسي.
5- حسناً فعل القائمون على الحراك الشعبي في تحييد القضايا الخلافية التي أصابت حراك "إسقاط النظام الطائفي" قبل أربعة أعوام في مقتل، حين برزت ثنائية "سلاح المقاومة" في مقابل "المحكمة الدولية"، وهو أمر يستدعي العمل أكثر على تصويب المطالب المرفوعة حالياً باتجاهات واضحة تجمع ولا تفرّق.
6- حسناً فعل المنظمون في توجيه إنذار الساعات الـ72 للسلطة الحاكمة، قبل اللجوء إلى المطالب التصعيدية، إلا أن ترك الشارع، ولو يوماً واحداً، ينطوي على مخاطرة كبيرة، لجهة الحفاظ على زخم الشارع. ولذلك، فقد كان أجدى بالإبقاء على التحركات اليومية، وإن بإطار محدود، واعتبارها رافداً لفعاليات ضخمة في نهاية كل أسبوع.
7- بالرغم من أن بعض أعمال الشغب في ساحة رياض الصلح قد بدت مفتعلة من رموز الطبقة السياسية لإفساد الحراك المدني، إلا أن تعامل بعض القائمين على الحملات الشعبية مع الشباب القادم من بيئات مهمّشة على أنهم بغالبيتم "مندسون" ينذر بشرذمة روافد الحركة الشعبية المتصاعدة يوماً بعد يوم.
وبرغم ما ورد من ملاحظات في هذا الشأن أو ذاك، يبقى ضرورياً القول إنه لا ينبغي تحميل الحراك الشعبي والحملات المنضوية فيه أكثر مما تحمل، ومع ذلك، فإن معركة مصيرية كالتي يخوضها الشعب اللبناني اليوم، تتطلب التوقف عند الايجابيات، بغرض تعزيزها، وعند بعض السلبيات، بغرض تصويبها... ومهما يكن الأمر فإن الانتفاضة الشعبية انطلقت ولا بد من إنجاحها