الحدث: مصطفى العاملي استنفار لرموز النظام بعد استشعار الخطر الشعبي
ليس في استطاعة أي من المسؤولين في السلطة الادعاء انه كان في منأىً عن الإدانة التي عبر عنها المتظاهرون في 29 آب الماضي، وهم يهتفون ضد الفساد والنهب وسرقة المال العام. لأن الجميع مشاركون في هذه الجريمة، سواء من خلال مشاركتهم المباشرة في الصفقات المشبوهة، أو من خلال السكوت عنها، لأسباب مختلفة، والساكت عن الحق شيطان أخرس.
صحيح أن أزمة النفايات هي التي فجّرت هذا الحراك الشعبي، ولكن الصحيح أيضاً أن الناس وصلت الى حالة من القرف من الطبقة السياسية الحاكمة أكثر من اشمئزازها من الزبالة التي وصلت الى بيوتهم مهدة بكارثة صحية وبيئية، والحكومة، رئيساً ووزراء، مختلفون منذ أكثر من شهرين، على كيفية الاستفادة منها، عبر الشركات التي تخصهم وتخص أبناءهم والمقربين منهم، وكلها لا تستوفي الشروط التي تؤمن السلامة العامة كونها ترتكز على المطامر والمحارق. وتتجاهل أقامة معامل الفرز والتدوير من جهة والإفراج عن أموال البلديات لتولي هذه المهمة من جهة ثانية.
وهذه الفضيحة المدوية، شكلت مع استمرار ازمة القطاع الكهربائي، الذي صرفت عليه مليارات الدولارات، ومع الانقطاع المستمر للمياه ومع تداعيات قانون الايجارات التهجيري، ومع الفشل الذريع في التعاطي مع سلسلة الرتب والرواتب، فضلاً عن تردي الخدمات الاجتماعية، استشفاءً، ضماناً، مدارس وغياب فرص العمل أمام خرجي الجامعات، شكلت عوامل محفزة للناس من أجل النزول إلى ساحة الشهداء لتهتف ضد الطبقة السياسية الحاكمة ورموزها وضد النظام الطائفي الذي انبثقت منه، والتي أثبتت فشلها وعجزها عن معالجة أي من هذه الملفات والقضايا، التي تشكل بديهيات حتى لدى الدول المتخلفة.
لقد هال هؤلاء المتسلطين على مقدرات الدولة، من فريقي الثامن والرابع عشر من آذار، مشهد المواطنين من كل الأعمار والمناطق، يتوحدون حول مطالبهم ومصالحهم الحقيقية، بعيداً عن الحقن الطائفي والمذهبي. فسارعوا إلى رشق هذا الحراك الشعبي بشتى أنواع الاتهامات والأسئلة غير البريئة، في محاولة لوقف نمو هذا المولود، الذي يشكل خطراً عليهم، بعد أن كشف موبقاتهم طوال السنوات الماضية ووضع الإصبع على الجرح.
ماذا حصل خلال الأسبوعين الماضيين؟
لم تستطع القوى الأمنية من تحمل هذا المشهد المطلبي والتغييري في آن واحد، فأوعزت إلى قواها الأمنية بفض اعتصامات الأيام الأولى للحراك في ساحة رياض الصلح بالرصاص المطاط وخراطيم المياه والاعتقالات، بعد ملاحقة المتظاهرين في شوارع وسط العاصمة، وكل ذلك بحجة وجود مندسين. تؤكد مختلف المعلومات أن هؤلاء الذين جرى التركيز عليهم هم من صنع الاجهزة. واستخدموا كمبرر للتعاطي بالشدة والعنف مع المتظاهرين في محاولة فاشلة لإرهابهم، كما هو الحال في كل الانظمة الدكتاتورية التي لا تستطيع سماح صرخة شعبها. لا بل أن "ديمقراطية" البعض دفعته إلى ابتكار أسلوب جديد - قديم في التعاطي مع المحتجين تمثل في إقامة الجدارـ الفضيحة لفصل المتظاهرين عن السرايا الحكومي، فسارع المتظاهرون الى تحويله الى جدارية تحكي عقم هذا النظام وهذه الطبقة السياسية، ولتعبر عن آرائهم في التغيير فتشكل أداة إدانة إضافية. تعمدوا إلى إزالته بعد أقل من 24 ساعة على تركيبه.
وزيادة في الدلالة على تخبط السلطة في تعاطيها مع هذه الظاهرة، أطلقت العنان لأبواقها السياسية والإعلامية للهجوم عليها. فذهب البعض إلى نبش ملفات بعض رموز الحراك وإلصاق الاتهامات ضده. مثل التعامل مع السفارات الأميركية والغربية، أو أن هناك من دفعهم ويدفع لهم في مواجهة حلف الممانعة ولتشويه صورة المقاومة وانه من خلال وضع الجميع في سلة واحدة فيه إجحاف بحق من لم تلوث يداه بالاستيلاء على مقدرات الدولة، لا بل أنه كان ولا يزال من دعاة التغيير، فيما ذهب البعض الآخر إلى حد القول أن هؤلاء يريدون إدانة مرحلة "الحريرية" السياسية والاقتصادية من خلال تحميلها مسؤولية إيصال البلد إلى هذا الوضع من سقوط المؤسسات الدستورية. ومن مديونية عامة تتجاوز السبعين مليار دولار، فيما اختار البعض الثالث توجيه نصائح للمتظاهرين، بأن تكون خارطة طريقهم انتخاب رئيس جديد للجمهورية. ومن هذه النقطة يمكن البدء بحل ازمة لبنان السياسية ومعها مشاكلهم الاقتصادية والاجتماعية والحياتية ... مع العلم أن هذه الازمات والمشاكل متجذرة في لبنان، ومر عليها العديد من رؤساء الجمهورية وحكومات عديدة. ولكن برلمانات قليلة. باعتبار أن الانتخابات في لبنان لا تجري إلاّ وفق الرغبة.
مهلاً أيها السادة: ليس سراً أن هؤلاء الذين نزلوا الى الساحات ينادون بوقف السرقة والفساد وبمعالجة قضية النفايات ودخلوا مبنى وزراة البيئة للضغط على وزير البيئة محمد المشنوق للاستقالة بعد أن اعترف بعجزه عن هذا الملف واستقال من اللجنة الوزارية المكلفة بمتابعته، وكلف وزيراً آخر بذلك؟
وأن تكون هذه الواقعة نقطة انطلاق نحو المحاسبة، لهؤلاء ميول سياسية ولكنهم وصلوا إلى قناعة بأن تغيير هذا الوضع العفن يجب أن يبدأ من نقطة ما. فكانت قضية النفايات برمزيتها لتكشف جانباً من جبل الفساد في هذه الدولة التي تحولت إلى هيكل بلا روح على مذبح الخلافات بين المشاركين في الحكومة التي فقدت كل مبررات بقائها وإن عدم سقوطها، وباعتراف رموزها، ينطلق من اعتبارات خارجية، كما هي الحال بالنسبة الى انتخابات رئاسة الجمهورية، التي سقطت فيها كل العوامل المحيطة. وبات هذا الملف رهن التطورات الاقليمية والدولية، باقرار واضح وصريح من هؤلاء الذين يعيبون على بعض منظمي الحراك الشعبي علاقتهم بهذه الدولة أو تلك.
إن هذا التحرك الذي طرح هموم الناس ومشاكلهم وتطلعاتهم بشفافية، لا يتجاوز عمره الشهر الواحد، ولا يستبعد أن يكون بعض المشاركين فيه له ارتباطات خارجية، وهذا الأمر يطرح مهمة حقيقية أمام هذه الانتفاضة التغييرية. وهي تنقية صفوفها من هؤلاء اليوم قبل الغد، لأنهم يسيئون إليها لا يمكن إلاّ أن يكون لهم اهداف مشبوهة لا تتناسب مع نقاوة الشعارات المرفوعة التي تحاكي وجع الناس.
ولكن في الوقت نفسه هناك سؤال ساذج يطرح ما هو تاريخ وارتباطات هؤلاء الذين يروا في عشرات آلاف الذين نزلوا إلى الشوارع، رافعين راياتهم وشعارات المطلبية، سوى بعض الأسماء - الذين يمكن أن توضع حولهم علامة استفهام؟ مع الإشارة إلى اجتماعات عدة عقدها منظمو الحراك لبحث مثل هذه الأمور وكان سيعلن عن قيادة لهذا التحرك وحتى اسم مشترك للمكونات المشاركة، ولكن أحداث وزارة البيئة شكلت مناسبة للتوسع في بحث الأمور التنظيمية ووضع رؤية متفق عليها. وهذا ما سيحصل في الأيام القليلة المقبلة.
ولكن هل يمكن لهؤلاء المنتقدين أن يكاشفوا للرأي العام بكيفية وصولهم إلى الحكم وما دور الدول القريبة والبعيدة في تحديد سياساتهم وخياراتهم؟ أن هؤلاء يجب أن يخجلوا من أنفسهم مرتين في اليوم. مرة لأنهم صنيعة الخارج ومرة ثانية لأنهم عاجزون وفاشلون ومختلفون حتى على كيفية سرقة الأموال التي قد تنتج عن النفايات، وهناك من يؤكد أن بعض مصادر التمويل الخارجية قد انقطعت عنهم ولذلك هم مهتمون بـ"الشغل بالزبالة" وفي الوقت نفسه يجب اقتلاعهم من السلطة ولا مشكلة في أن يأتي أياً كان مكانهم، لأنه لن يكون أسوأ منهم. فالثورة تعزز قياداتها.
الطريف أن بعض من في السلطة حمّل موقف هيئة التنسيق النقابية المنتقد لدخول بعض المحتجين إلى وزارة البيئة وراح يروّج له عبر المنابر الإعلامية للدلالة على صوابية موقفه الرافض لهذا الحراك الجماهيري. متناسيا ان هذه الهيئة قد دجّنت منذ أن اجتمعت قيادات فريقي السلطة المختلفين عن كل شيء إلا على ضرب الحركة النقابية المستقلة وحقوق ومطالب ذوي الدخل المحدود، وأطاحت بقيادتها السابقة وأصبحت القيادة الحالية تحاكي قيادة الاتحاد العمالي العام التي لم يعد يسمع بها أحد.
ليس المطلوب من هذا الحراك الاجابة على كافة الاسئلة المطروحة، ولا ايجاد حلول لكافة المشاكل المطروحة. ولكن في الوقت نفسه لم يعد من الجائز الرهان على أنه يمكن المعالجة من خلال هؤلاء الذين هم في السلطة اليوم. لأن من جرب المجرب كان عقله مخرب.
وبالتالي فإن محاولة الاصلاح من ضمن هذه المؤسسات المتداعية والقائمين عليها، ضرب من الجنون .
ومع ذلك فأن الاستنفار السلطوي خلال الأيام الماضية كشف مدى الهلع الذي انتاب اركانها نتيجة هذا الحراك، فالحكومة اوقفت جلسات مجلس الوزراء ، واعتمد اسلوب جديد لمعالجة مشكلة النفايات عبر تكليف الوزير اكرم شهيب بهذه المهمة عله يوفق من خلال النائب وليد جنبلاط في الفرض على أهالي إقليم الخروب فتح مطمر الناعمة مجدداً لمدة ستة أشهر، مع بعض الرشاوى المالية على شكل مشاريع انمائية للمنطقة، كما عرض على أهالي عكار، والجميع يعرف ما يعرف عن هذه المشاريع المفترضة وكيف يذهب الباقي إلى الجيوب التي تمتلىء من المال العام. مع الإشارة إلى أن الوضع في البلد لن يستقيم ما لم تسترجع الأموال المنهوبة إلى خزينة الدولة. ومن يريد الإصلاح يجب أن يبدأ من هذه النقطة تحديداً.
مؤشرات كثيرة تدل على أن لبنان دخل في منعطفٍ خطرٍ بعد أن تأكد ان السياسيين غير قادرين على معالجة اي من الملفات الكثيرة المطروحة وفي الوقت نفسه غير مستعدين أو حتى ممنوع عليهم افساح المجال لغيرهم ، وهذا ما يتأكد من خلال رفض الحكومة الاستقالة رغم انها اصبحت غير قادرة على الاجتماع ولا على اتخاذ القرارات والشعب ينتفض ضدها وضد سياساتها، وأن تفرز قاسماً مشتركاً جديداً بين مكوناتها . ألا وهو الحراك الشعبي، الذي يخشى هؤلاء أن يطيح بما يعتبرونه ثوابت أو على الأقل يحدث خرقاً في جدار هذا النظام الذي يخشى الكثيرون الاقتراب منه، مع أن اللبنانيين باتوا على قناعة ثابتة بأنه أصبح ميتاً، وأن "الميت لا يعود إلى الحياة" حتى ولو اجتمعت لإنقاذه عشرات اللجان الطبية المتخصصة، فكيف الحال إذا اقتصر الأمر على طاولة حوار من النوع المجرب سابقاً وثبت أنه غير مطابق للمواصفات المطلوبة ومنتهي الصلاحية سلفاً، ولكن ألا ترون أنه من المفضل المسارعة في دفنه بعد أن طلعت ريحته وريحكتم؟