انتفاضة العراق: شعب يريد الحياة منذر بو عرم
يتكشف المشهد العراقي عن بعيد متناقضين يتقاطعان في نقطة أزمة نظام المحاصصة الذي أنتجه الاحتلال الأميركي.
البعد الأول: يتمثل بالانتفاضة الشعبية الممتدة من بغداد، في الوسط، حتى البصرة جنوباً. هذه الانتفاضة جاءت نتاج موضعي لتراكم عملية النهب المنظم لمقدرات الشعب العراقي حتى بات هذا البلد العربي الغني بمقدراته ونفطه في قائمة دول الست الأولى في العالم الأكثر فساداً. وهذا ما يبدو واضحاً من الشعارات التي يرفعها المتظاهرون والمطالبة بملاحقة المفسدين ناهبي أموال الشعب، وممن وصفهم المتظاهرون "بمزدوجي الجنسية" في إشارة واضحة إلى ارتباط رموز النظام السياسي بالخارج ومصالحه واللافت في هذا المجال الرفض العارم للأحزاب الدينية التي استفادت من الاحتلال الأميركي للسيطرة على مقدرات العراق، ونهبها بغطاء ديني وتحت عباءة التحريض الطائفي للإلهاء العراقيين عن مصالحهم الحقيقية.
وفي السياق أكدت أوساط المتظاهرين أن ما نهب في قطاع الكهرباء فقط، يتجاوز الـ40 مليار دولار، علماً أن كل الدراسات تشير إلى أن القوى المهيمنة على السلطة مارست على مدى 12 عاماً عمليات تهريب منظمة للنفط وحصلت على مئات مليارات الدولارات، فضلاً عن النهب في المؤسسة الأمنية والجيش "الذي بات مجرد تجمع للمليشيات الطائفية"، حيث تكشف سقوط مدينة الموصل عن فضيحة وجود 55 ألف جندي وهمي تصرف رواتبهم لتذهب إلى جيوب القادة الأمنيين، وحماتهم السياسيين. وعلى رأسهم في الفترة السابقة رئيس الحكومة السابق الذي لم يتورع عن اتهام القوى السياسية المحركة للمتظاهرين بأنها غير مسلمة، في محاولة بائسة لتحريك الغرائز وإجهاض التحرك الشعبي ملقياً اللوم على القوى اليسارية التي باتت تشكل رقماً صعباً في الحراك الشعبي، وليس غريباً على المالكي أن يدلي بتصريحاته هذه من طهران التي يزورها، بعد أن أدرجت لجنة برلمانية اسمه على رأس قائمة المطلوبين للعدالة، بتهمة تسهيل سيطرة تنظيم "داعش" الإرهابي على الموصل، بهدف تحويل الصراع من مواجهة بين سلطة حاكمة ومحكومة للخارج، والحراك الشعبي الذي شهده وسط وغربي العراق للمطالبة في المشاركة وتحسين الظروف المعيشية. تماماً كما يحصل اليوم، حيث اقتحمت مجاميع من المسلحين تظاهرة حاشدة في البصرة، وأطلقت النار مما أدى إلى سقوط عدد من الشهداء والجرحى في صفوف المتظاهرين. وقد اتهم نوري المالكي بالوقوف وراء هذا الهجوم. وهذا ما دفع المتظاهرين إلى رفع شعار "إسقاط النظام" والتخلص من نهج المحاصصات الطائفية وبناء عراق ديمقراطي يرتكز على مفهوم العدالة الاجتماعية.
أمام هذه الانتفاضة الشعبية يلجأ رئيس الحكومة حيدر العبادي إلى مناورة لإجهاض الحراك الشعبي وهذا البعد الثاني للمشهد المتمثل لرفع شعار "إعادة ترتيب أوراق النظام"، مع الإبقاء على جوهره التحاصصي الطائفي وفق موازين قوى جديدة.
وفي السياق عمد العبادي في إجراءات إصلاحات "شكلية" إلى إلغاء مراكز نواب رئيس الجمهورية، ونواب رئيس الحكومة، كما عمد إلى تحويل عدد من الضباط إلى المحاكمة بتهمة الوقوف وراء سقوط مدينة الرمادي، عاصمة محافظة الأنبار، بيد تنظيم "داعش" الإرهابي، معلناً أن هناك قوى تمنع القيام بإصلاحات لمحاربة الفساد وهذا ما يؤشر إلى أن العبادي غير معني بإجراء تغيير جذري للنظام السياسي، بقدر ما هو معني بتقليم أظافر خصومه في حزب "الدعوة" فضلاً عن الأطراف السياسية الأخرى، المشاركة في السلطة. ويمكن أن ندرج في هذا المجال إعلان العبادي أن "إسقاط النظام" يعني الفوضى، وبالتالي تمسكه بوجود هذا المخلوق المسخ الذي أنتجته واشنطن لتسهيل عملية تقسيم العراق وهذا ما جاهر به أحد القادة العسكريين الأميركيين كحل أمثل من وجهة نظر واشنطن لأزمات العراق. علماً أن كل أجندة الاحتلال الأميركي كانت ترتكز على تحويل العراق إلى نموذج للتفتيت في العالم العربي، وهذا ما يحصل فعلاً في اليمن، وسوريا، وليبيا خدمة لمشروع الشرق الأوسط جديد.
وإذا كانت حكومة العبادي قد أعلنت رفضها لتصريحات المسؤول الأميركي فإن هذا الرفض لا يعدو كونه ذر الرماد في العيون، لأن مجرد بقاء النظام السياسي الحالي هو بحد عينه قاعدة للتقسيم ليس فقط لطابعه التحاصصي الطائفي، بل لأن وجوده هو البيئة الحاضنة لإرهاب "داعش" التي تستحوذ على ما يزيد على نصف مساحة العراق، برعاية واشنطن، وإدارة الأحزاب الدينية الطائفية التي تبرر وجود "داعش" بممارساتها الهادفة إلى الاستحواذ على مقدرات العراق جنوباً، وإطالة المواجهة مع "داعش" في الوسط.
في ضوء ما تقدم فإن الحراك الشعبي العراقي معني بفضح مناورات العبادي وطغمته كما ان القوى الديمقراطية العراقية معنية بإطلاق برنامج وطني للتغيير الديمقراطي يطيح بالنظام الحالي ويجفف منابع الإرهاب "الداعشي" ليصيب المشروع الأميركي المتقاطع مع مصالح إقليمية في القلب عبر عراق موحد ديمقراطي علماني.
شؤون عربية: وسام متى
"قناة السويس الجديدة": رهان على المردود الاقتصادي.. بعد الفوز بسباق الزمن
كسب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي معركة الوقت، حين وقف يوم السادس من آب الحالي لتدشين قناة السويس الجديدة، في احتفال اسطوري، تميّز بمشاركة دولية رفيعة المستوى، بعدما انتهى العمل على انجاز هذا المشروع في عام واحد، بناءً على طلبه.
المشروع الإستراتيجي، الذي تفاوتت ردود الفعل بشأنه، بين تسخيف وصل إلى حد السخرية، وتضخيم بلغ مستوى الحديث عن معجزة، ينتقل من مرحلة الرهان على فترة التنفيذ، والتي قوبلت بتشكيك واسع من قبل المعارضين، الى رهان اكبر على المردود الاقتصادي، وبطبيعة الحال الجيوسياسي، وهو بات يتعرض اليوم لحملة تشكيك أوسع، وصلت إلى حد إعلان الحرب النفسية على المشروع برمّته.
ومما لا شك فيه ان قناة السويس الجديدة تمثل أحد أبرز الإنجازات الإستراتيجية للرئيس المصري في العام الثاني من الحكم، ومن أجل تنفيذ هذا المشروع الطموح، بالسرعة المطلوبة، تم استنفار كل أجهزة الدولة المصرية، سواء في الشق التنفيذي، الذي انخفض جدوله الزمني من ثلاثة أعوام إلى عام واحد، كما أمر السيسي حين أعطى الاذن ببدء اعمال الحفر والتوسيع، أو في الشق الدعائي، الذي جعل "قناة السويس الجديدة" توازي في أهميتها مشاريع قومية كبرى تركت آثارها السياسية في الداخل والخارج على السواء.
وكان واضحاً منذ البداية ان الرئيس المصري قد وضع نصب عينيه تنفيذ مشروع قناة السويس بدقّة بالغة، مدعوماً بسند شعبي، عكسه الإقبال الكبير على التمويل، وهي ظاهرة ليست بجديدة على الشعب المصري، حين يتعلق الأمر بمشاريع قومية، ولكنها جاءت هذه المرّة غير مسبوقة في حجمها، إذ أدى التهافت الشعبي على شراء الأسهم إلى تأمين الكلفة اللازمة للقناة الجديدة، والمقدّرة ما بين 60 و65 مليار جنيه (حوالي 9 مليارات دولار)، خلال ثمانية أيام فقط.
وبعيداً من الحرب النفسية المعلنة من قبل جهات داخلية وخارجية ضد المشروع الجديد، فإن قناة السويس الجديدة تمثل انتصاراً على أكثر من صعيد، سواء على مستوى تطوير العمل في الممر المائي الأهم في العالم بشكل غير مسبوق، أو لجهة تأكيد الدولة المصرية على تماسكها وقدرتها على انجاز المشاريع القومية الكبرى في فترة زمنية قصيرة، وفي بيئة إقليمية بالغة التعقيد، تشهد تفككاً للدول المركزية، في سياق إعادة رسم للخرائط الجغرافية التقليدية.
ولتوضيح فكرة المشروع الجديد، لا بد من الحديث عن نظام الملاحة في قناة السويس قبل إطلاق المشروع الجديد.
معروف أن قناة السويس هي عبارة عن مجرى مائي باتجاه واحد، بطول 190 كيلومتراً، ما يجعل نظام الملاحة فيه بالغ التعقيد، ويفرض اعتماد نظام الانتظار. هذا الأمر دفع بالسلطات المصرية المتعاقبة منذ الخمسينيات من القرن الماضي إلى التفكير في حلول كثيرة للعمل على زيادة الطاقة الاستيعابية للمجرى العالمي، عبر إقامة تفريعات لعبور السفن في اتجاهين، أهمها تفريعة الديفرسوار شمال البحيرات الكبرى (8 كيلومترات)، وتفريعة بحيرة التمساح (4 كيلومترات)، ومن ثم تفريعة البلّاح (9 كيلومترات)، وتفريعة شرق بورسعيد (40 كيلومتراً). ولكن برغم كل ذلك، فإن نظام الملاحة في قناة السويس ظل معقداً، وعاجزاً عن تأمين كامل الطاقة الاستيعابية.
في الوقت الحالي، تقوم الملاحة في قناة السويس على نظام القوافل، وتشمل عبور قافلة واحدة من الجنوب، وقافلتين من الشمال ضمن مواعيد محددة، على النحو التالي: تبدأ قافلة الشمال الأولى بعبور قناة السويس من جهة بور سعيد، منذ الساعة الأولى بعد منتصف الليل حتى الخامسة صباحاً، إذ تضطر للانتظار ما بين 6 و10 ساعات في البحيرات الكبرى (شرق المجرى الملاحي وغربه بحسب حجمها)، حتى مرور قافلة الجنوب، التي تدخل المجرى المائي من خليج السويس وتتجه شمالاً. وطوال فترة عبور قافلة الجنوب، لا يسمح بعبور أي من سفن قافلة الشمال، إلى أن تعبر آخر سفينة من قافلة الجنوب تفريعة البلاح، فتنطلق قافلة الشمال الثانية باتجاه الجنوب. من الناحية العملية، يقوم المشروع الجديد على شق قناة موازية، وتعميق المجرى الملاحي، وخصوصاً تفريعات البحيرات الكبرى، بإجمالي طول 72 كيلومتراً، بما يسمح بمرور السفن في الاتجاهين، وبأعداد غير محدودة، ومن دون الحاجة إلى الانتظار.
وكان واضحاً ان الرئيس المصري قد بدا على عجلة من أمره لإتمام المشروع الجديد في موعده المحدد. فقبل عام واحد على الافتتاح التاريخي، وتحديداً في الخامس من آب العام 2014، كان السيسي يستمع إلى شرح من رئيس هيئة قناة السويس الفريق إيهاب مميش حول المشروع الجديد. توقف الرئيس المصري عند قول مميش إن "الفترة الزمنية لتنفيذ المشروع هي 36 شهراً... ثلاث سنوات". قاطع السيسي رئيس هيئة قناة السويس، قائلاً: "هيّ سنة واحدة"، ليرد الأخير: "سنة واحدة ويُنفّذ يا افندم".
بدا السيسي على عجلة من أمره في تحقيق إنجاز إستراتيجي يسجّل لعهده الرئاسي.
وبرغم حديث المعارضين عن استعراض إعلامي قام به الرئيس القادم من المؤسسة العسكرية، إلا أن واقع الأمور يشي بأن الاستعجال كان ضرورياً لاتمام هذا الانجاز الاستراتيجي، إذ لم يعد خافياً على أحد أن الاقتصاد المصري يمر في أصعب ظروفه، حتى صار في حاجة إلى جهود مكثفة لحمايته، وحماية الدولة المصرية كاملةً، من الانهيار، خصوصاً بعد الضغوط التي واجهها عقب ثورتين أسقطتا نظامين في أقل من ثلاثة أعوام، وترافقتا مع فوضى إقليمية وتحوّلات فرضت على المصريين الدخول في "سباق مع الزمن"، وهي العبارة التي يحلو للسيسي استخدامها منذ فوزه برئاسة الجمهورية في صيف العام 2014. ولكن الصعوبات التي واجهها الاقتصاد المصري خلال الفترة الماضية، وبرغم خطورتها، لا تكفي لتفسير إصرار السيسي على جعل هذا المشروع أولوية كبرى، استنفرت من أجله كل أجهزة الدولة المصرية، إذ ثمة اعتبارات أخرى ترتبط بقناة السويس نفسها، وهي تتعلق بالتنافس العالمي على الممرات البحرية.
ومعروف أن قناة السويس شكلت منذ حفرها قبل 146 عاماً عنصر جذب للتجارة العالمية، غير أن طموحات أخرى باتت تشكل خطورة على القدرة التنافسية للقناة المصرية، وأبرزها قناة بنما، التي ستقوم بأعمال توسيع وتعميق لعبور السفن الضخمة في العام 2016، وقناة نيكاراغوا التي تشق قناة على طول 200 كيلومتر ويرجح أن تدشّن بعد خمس سنوات، وطريق بحر الشمال الذي يتوقع أن تزداد أهميته خلال السنوات المقبلة في ظل التقدم التكنولوجي وذوبان الثلوج، وطريق رأس الرجاء الصالح الذي يتعاظم مستوى الخدمات اللوجستية فيه، وقناة البحرين التي تزمع إسرائيل إنشاءها.
حتى الآن، كسب السيسي الجولة الكبرى في خطة قناة "السويس الجديدة"، حين تمكنت أجهزة الدولة المصرية، وبشكل خاص القوات المسلحة، من إنجاز المشروع الضخم في الوقت المحدد له. ويبدو أن هذا ما دفع بالمعارضين إلى الانتقال من التبخيس بالفكرة إلى التشكيك في الجدوى الاقتصادية من المشروع الجديد.
وفي ظل الغموض الذي بدا مقصوداً من قبل السلطات المصرية بشأن تفاصيل مشروع "قناة السويس الجديدة"، وآثاره المستقبلية، فإن طرفي السجال حول "قناة السويس"، سواء المؤيدين أو المعارضين، ذهبا إلى تقديرات متفاوتة جداً بشأن الجدوى الاقتصادية للمشروع الجديد.
وبحسب القائمين على المشروع، فإن قناة "السويس الجديدة" سترفع قدرة الممر المائي من 49 إلى 97 سفينة يومياً في المتوسط، بما يرفع تدريجياً العائدات السنوية من 5.233 مليار دولار سنوياً إلى أكثر من 13 مليار دولار بحلول العام 2023 (259%)، فضلاً عن تطوير موقع مصر كممر مائي مهم لحركة التجارة الدولية، عبر تقليل عامل الوقت، وتحويل منطقة قناة السويس إلى مركز تجاري عالمي، عبر منشآت فنية ولوجستية.
في المقابل، يرى المشككون في جدوى "قناة السويس الجديدة"، أن الزيادة المتوقعة في حركة السفن تبقى مرتبطة بالتجارة العالمية، فإذا ما تسارعت عجلة الإنتاج في الصين والولايات المتحدة، وزادت معدلات الاستهلاك في أوروبا، فسترتفع حركة المرور في الممر المائي الجديد، لكن إذا ما استمر الاقتصاد العالمي في النمو بمعدلات بطيئة، فلن يكون ثمةَ داعٍ لاستخدام القناة الجديدة في مصر. وينطلق المشككون في جدوى المشروع الجديد من واقع تراجع عدد السفن التي عبرت قناة السويس خلال الفترة الأخيرة، وخصوصاً بعد الأزمة الاقتصادية العالمية الكبرى في العام 2008، للقول إن مصر ليست في حاجة إلى "قناة سويس جديدة"، وهم يرون أن القائمين على المشروع يبالغون في الحديث عن تزايد حركة الملاحة في المجرى المائي خلال السنوات المقبلة، وبالتالي في العائدات الاقتصادية لحركة عبور السفن.
وبرغم أن انتقادات المشككين - أو بعض منها - تبدو واقعية، في ظاهرها، إلا انها تتجاهل جوانب أخرى، أبرزها أن جزءاً من التراجع الذي لحق بحركة النقل في قناة السويس يعود إلى انعدام الاستقرار في الشرق الأوسط، فضلاً عن بروز طرق بحرية أخرى منافسة على المستوى اللوجستي. وعليه، فإن الجدوى الاقتصادية لـ"قناة السويس الجديدة" تنطلق من أهمية العمل على زيادة قدرتها التنافسية، إن على مستوى تسهيل الملاحة وتوفير الوقت بالنسبة إلى عبور السفن، أو على مستوى الخدمات اللوجستية المرافقة لها، والتي يقول القائمون على المشروع إنها ستتضمن 6 موانئ جديدة، ومنطقتين صناعيتين، ومراكز للخدمات التجارية والفنية من بين خدمات أخرى.
كل ذلك يدفع إلى القول، ومن دون إهمال المخاطر الموضوعية المحتملة، إن "قناة السويس الجديدة" هي مشروع إستراتيجي يستحق المغامرة في عالم تزداد فيه العلاقات الاقتصادية تشابكاً وتعقيداً.