العراق حراك شعبي واسع لمواجهة المحاصصة والفساد جاسم الحلفي
تشكل الحراك الاجتماعي الراهن في العراق على خلفية أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية، أهم مظاهرها تعمق الفوارق الاجتماعية بفعل الاستقطاب الكبير في توزيع الدخل والثروة. والحراك الحالي هو أحدث صور الاحتجاج على الأوضاع المزرية التي يعيش العراقيون تحت ظلها، وهو يعد مؤشراً واضحاً على رفضهم نظام المحاصصة الطائفية والفساد، وسخطهم خصوصاً على نهج التحاصص الطائفي الذي هو أساس بناء النظام السياسي بعد 2003. حيث تمترس الفساد في مؤسسات الدولة وتغوّل واستباح ثروات العراق وبددها هباءً، وتسبب في تدهور الوضع الأمني ووقوع ثلث مساحة العراق تحت احتلال تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وفي تكوين المليشيات وانتشار السلاح خارج المؤسسات العسكرية للدولة.
إن أزمة النظام واضحة لا ريب فيها، ويتجلى أحد مظاهرها في عجز النظام عن دفع رواتب عدد من المؤسسات في أوقاتها، والتلكؤ في صرف رواتب عمال شركات التمويل الذاتي، وعدم القدرة على توفير الخدمات للمواطنين. وكان النقص في تجهيز الكهرباء في صيف ارتفعت درجات الحرارة فيه إلى أكثر من 50 درجة مئوية، من بين أسباب اندلاع المظاهرات، التي بدأت في البصرة. وقد جوبهت باستخدام العنف المفرط في محاولة لقمعها، ما يؤكد عجز السلطات أيضاً عن إقناع الجماهير الغاضبة بصدقيتها وجدية وعودها بالاستجابة لمطالبهم العادلة، وعزمها على تحسين أوضاعهم وتوفير فرص العمل لجيوش العاطلين. لكن القبضة البوليسية التي طالما رفعتها الأنظمة المستبدة في وجه كل مطالب بالحقوق والحريات، والوسائل الأخرى القاسية التي تستخدمها لإركاع المواطن وإذلاله، وبضمنها مواجهة انفجار سخطه بالنار والذخيرة الحية، لا تستطيع شيئاً أمام إرادة المحرومين والمجوعين العازمين على انتزاع حقوقهم من غاصبيها. وكان لاستشهاد الشاب منتظر الحلفي في "المدينة" بمحافظة البصرة، صفارة انطلاق حراك جماهيري كبير، أعاد الاعتبار لحركة الاحتجاج والدفاع عن الحقوق، واستعاد مآثر الشعب العراقي ووقفاته الباسلة ضد الظلم والاستغلال والاستبداد.
وفي اثر ذلك تحركت المظاهرات التي تميزت بسمات يمكن تلخيصها في التالي:
1- وضوح الهدف: حيث لم يلتبس شيء على المتظاهرين، الذين طالبوا بوضوح وجرأة بإصلاح النظام السياسي وتخليصه من المحاصصة والفساد والترهل.
2- البعد الوطني للمظاهرات: إذ شملت محافظات العراق كافة، بأقضيتها ونواحيها وقراها، باستثناء الواقعة منها تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية ( داعش).
3- الطابع الشعبي العام: وتجلى في إسهام ناشطين من جميع طبقات وفئات المجتمع العراقي، عمالاً وفلاحين ورجال أعمال ومثقفين ونساء، فيما كان الحضور الغالب للشباب.
4- المحتوى الاجتماعي: فالقضايا والمطالب التي تمس الجانب الاجتماعي، حاضرة بوضوح كبير في شعارات المتظاهرين وهتافاتهم المنادية بالعدالة الاجتماعية، والضمان الاجتماعي ومكافحة البطالة، وتضييق الهوة بين مستويات الدخل، ومعالجة سلم الرواتب.
5- مشروعية المطالب: ذلك ان ما يطبعها بنحو خاص هو كونها مشروعة وممكنة، وبضمنها ما يمس عيش الإنسان وحقوقه واحترام آدميته وضمان كرامته. والأموال التي رصدت في الميزانيات كفيلة بتطمين حاجات المواطنين، لو لم يستحوذ عليها حيتان الفساد، و لو ان إدارتها جرت بحرص وكفاءة وأمانة.
6- سلمية الأسلوب: فقد مارس المواطنون حقهم في التعبير عبر تنظيم مظاهرات سلمية، مارست الكفاح اللاعنفي. لكن وللأسف شهدت بعض المظاهرات مظاهر عنف وصدام مع الأجهزة الأمنية، فيما حافظت مظاهرات بغداد على الطابع المدني المتحضر. ثم حدث في جمعة 14 آب الماضي، أن حضرت إلى ساحة التحرير في العاصمة مجاميع منظمة تحمل السكاكين والعصي، وحاولت تخريب التظاهرة والاعتداء على المتظاهرين، لكنها فشلت في تغيير طابع المظاهرة وسلميتها.
7- الشكل التنظيمي للمظاهرات: اتبع المتظاهرون الشكل الأفقي في التنظيم، وفي التنسيق عبر عدد كبير من اللجان التنسيقية. فمنظمو المظاهرات يعقدون اجتماعات ولقاءات، تنعكس أفكارها وقراراتها في صفحات التواصل الاجتماعي، حيث يتم تحديد مكان التظاهر وزمانه والوقت الذي يستغرقه، كذلك المطالب الأساسية والأهازيج والبيانات.
وفي شأن تأثير المظاهرات على أصحاب القرار نقول إن سعتها وتحليها بالسمات سالفة الذكر، ترك أثره في تعامل أوساط مهمة مع المتظاهرين، وفي اتساع التأييد لها. ويمكن الإشارة هنا الى موقف المرجعية الدينية في النجف من المظاهرات، ورد فعل الحكومة، وموقف رموز المحاصصة والفساد منها:
1- موقف المرجعية الدينية: فقد أيدت مطالب المتظاهرين تأييداً واضحاً من خلال خطب الجمعة، التي تهتم بنقلها وسائل الإعلام. وشجع ذلك أوساطاً واسعة على الانتظام في المظاهرات، كما أسهم في الضغط على صاحب القرار ليتخذ موقفاً ويحدد الإجراءات المتصلة بالتعامل مع المظاهرات.
2- موقف الحكومة والبرلمان: استجاب رئيس الوزراء لمطالب المتظاهرين، خاصة بعد تأييد المرجعية لها، وسارع إلى تقديم ورقة الإصلاح الأولى التي صادق عليها مجلس الوزراء بالإجماع، ثم صادق عليها البرلمان، وألحق بها ورقته الإصلاحية. واستقبلت أوراق الإصلاح بترحاب كبير، حيث انها حسمت الوجهة في اتجاه الإصلاح. لكن كل ذلك لم يقنع المتظاهرين بأن عجلة الإصلاح تحركت فعلاً، نظراً إلى ضعف الثقة بالحكومة، وبسبب كثرة الوعود التي سمعها الناس من رؤساء الحكومات السابقين ووزرائهم، ولم يروا ترجمة ملموسة لها.
3- موقف معارضي الإصلاح: فهؤلاء سيبذلون ما بوسعهم للتمويه والتشويه والتحريف والالتفاف، وللتعطيل والمعاندة واللعب على عامل الوقف بغية الإفلات بأقل الخسائر. فهم يدركون أن عملية الإصلاح ستضعهم، إن تمت بالصورة المطلوبة، وجهاً لوجه أمام القضاء. وهو الذي نأمل ان يكون عادلاً، وان يقر حق الشعب العراقي في استرجاع أمواله المنهوبة منهم، إلى جانب إنهاء طموحاتهم السياسية وما يكتنفها من مشاريع فساد.
4- موقف المتظاهرين الذين يطالبون بتطبيق حزمة الإجراءات المعلنة، وينتظرون ترجمة ملموسة لها. ومن وجهة نظرهم يجب ان يشمل الاصلاح النظام برمته، وهم عازمون على مواصلة حضورهم في ساحات التظاهر والتحشيد لها بقوة، دعماً للإصلاحات وتعبيراً عن رفض ومقاومة اي محاولة للتراجع عن الإصلاح أو الالتفاف عليه أو الانقلاب.
من خلال المتابعة الميدانية للمظاهرات، والمشاركة المباشرة فيها، فإن عجلة الإصلاح بدأت بالدوران، وان من الصعب ايقافها. وفي المقابل من المهم ان تأخذ زخماً واقعياً، لا تسرع فيه غير مدروس، ولا تباطؤ يخمد حركتها ويطفئ جذوتها. ولتأمين وإدامة الزخم الواقعي بما يحقق الأهداف المبتغاة، ينبغي إضفاء التنظيم على جميع مفاصل حركة التظاهر والاحتجاج، وتنسيق أنشطتها، والحفاظ على وجهتها نحو اصلاح النظام عبر تخليصه من المحاصصة والفساد.