ثقافة وفنون: ما هي الأيديولوجيا زياد أبو عبسي
تدل أبحاث علم الإناسة (الأنثروبولوجيا) وسائر العلوم الاجتماعية على أن الإنسان فاعل في الوجود. هذا الكلام يعني فيما يعني أن الإنسان يعيش في حالات أو ظروف متغيرة عبر الزمان، وهذا الفعل اسمه التاريخ. التاريخ هو حكاية مكتوبة عن فعل الإنسان في هذا الوجود، وهذا الفعل لا يكون خارج الزمان والمكان.
إن اللغة التي تُستعمل في كتابة التاريخ يطلق عليها اسم اللغة الوصفية وليس التعبيرية، لأن اللغة التعبيرية هي تلك اللغة التي تحمل تعليقاً شعورياً أو خيالياً على الأحداث.
بكلام آخر نقول: إن اللغة التعبيرية هي لغة الشعر التي تحتمل صياغات في التعبير يفسرها علم البيان ومنها التشبيه والإستعارة والكناية... إلخ. أما الكتابة الوصفية فهي الكتابة العلمية، وهذا يعني أنها تعني ما تصف ولا تحتمل تأويلات أو آراء. هذا يعني أنك عندما تقول هذا حجر، فإنك تعني هذا حجر ولا شيء آخر غير الحجر موضوع الكلام. أما في قولنا قلبه كالحجر وجب التفسير لسؤال كيف يكون القلب كالحجر. هذا الأمر يفترض معنى غير واضح. قد يكون القلب قوياً في حالة صدام مع الآخر، ويوصف شخص بأن قلبه كالحجر أي أنه جريء. أو ربما كان هذا الشخص الموصوف لا يشعر مع الآخرين. لذلك نقول بأن اللغة التعبيرية ليست هي اللغة العلمية على الإطلاق.
لدى قراءتنا نصّاً تاريخياً، يفترض أنه كُتِبَ على أسس لغوية صحيحة لا تحتمل التباساً أو تفسيراً.. فالنص التاريخي هو نص سردي يروي أحداثاً حصلت. أما النص الشعري أو الأدبي فهو يحتمل تدخل الكاتب في تناول الأحداث أو ابتداعها. إن الإبداع في الرواية أو المسرحية هو محاكاة للواقع. بكلام آخر؛ تبدو أحداث الرواية وكأنها من واقع. هذه مقدرة تتميز بها ملكات العقل البشري.
إن التاريخ يتألف من أحداث حصلت، أما الرواية فهي أيضاً تتألف من أحداث لكن كتبت هذه الأحداث بأسلوب تعبيري محبوك لكي يبدو وكأنه حقيقة. تسمى هذه العملية بالعملية الإبداعية، يعني هذا الكلام بأن الكاتب يقوم بخلق واقع مركَّب من خيال محض. هذا الخيال ما كان موجوداً لو لم يكن هناك واقع يتألف من أحداث. أحداث الرواية هي محاكاة للواقع. يعني ذلك أنها تكونت في ذهن المؤلف أفكار تشكلت تحمل في طياتها مشاعر. هذه المشاعر هي ردة فعل الأديب الأولى التي تأتي لكي تصف التجربة الإنسانية من منطلق الإحساس الذي يسبق الوعي.
يكتب هذا المؤلف نصه الذي يستخدم أحداثاً مُصاغة ومركبة لكي تعكس أحاسيسه. يسوق الكاتب أحداثه وقد يلجأ إلى كتابة تعليق عقلي يستنتج فيه أمثولته من تلك الأحداث. يسمى هذا الاستنتاج بيت القصيد، أي الغاية العقلانية التي من أجلها تم القيام بعمل التأليف. يشارك المتلقي، قارئاً كان أم مشاهداً، أفكار الكاتب المستندة على الأحداث المصاغة وفي بعض الأحيان قد لا يشارك. المهم هو أن يتفاعل المتلقي مع الأحداث وأن يستوعب ما يرمي إليه الكاتب في عمله. هنا يبدأ التفاعل. إن ما يستند إليه الكاتب هو سياق تأسس في الخيال ومنه نفذ إلى الحيِّز. لكن وما دامت الأحداث الواردة في المؤلَّف قد فُصّلت لكي توافق الرأي الوارد في الاستنتاج، فإن هذا الرأي بات مشروطاً في الأحداث التي عليها استند. هذه الأحداث هي من محض خيال فردٍ، فهي تبقى حالة خاصة ولغة تعبيرية منسوبة إلى شخص واحد. لذلك، فإن لغة التأليف الوارد لا تعدو كونها حالة خاصة وتعبيرية.
إن اللغة الوصفية التي تؤلف سردية لأحداث حاصلة هي لغة علمية. إن كلمة علم تدل على أن الوصف الوارد في الخطاب اللغوي غير ملتبس ويدل على حقائق أكيدة وعامة. التاريخ يكتب بلغة وصفية لذلك فهو نص علمي. إن في قراءتنا نصاً تاريخياً لا تُحاجِجُ أو لا نشك في صحة الأحداث ما دام المؤرخ ينقل ما حصل بأمانة. هذا التاريخ يولد شعوراً ما يؤول إلى موقف ذهني إزاء ما هو حاصل.
هذا الموقف هو ما يشكل الأيديولوجيا. تعرَّف الأيديولوجيا بأنها مجموعة الأفكار التي تشكل نهجاً حياتياً يعيش على نهجها الأفراد. لذلك فهي مرحلة راقية في التفكير البشري، وهذا التفكير هو فكر ناشئ عن شعور أتى كردة فعل على الواقع الذي هو لب العلم. وهكذا تكون الأيديولوجيا لفرد هي أدب وفن وشعر في جوهرها.