كمال حمدان: التثبيت النقدي رافعة لزيادة أرباح الطغمة المالية
من باب التذكير أُقرت سياسة التثبيت النقدي في النصف الأول من التسعينيات، بعد الانهيار النقدي، وموجة التضخم العاتية اللذين استجدا في عهد الحكومة الأولى من الجمهورية الثانية.
ومن باب التذكير، أيضاً، شهد سعر صرف الليرة تجاه الدولار في بداية التسعينيات تدهوراً سريعاً من نحو 800 ليرة لكل دولار إلى ذروة بلغت 2800 ليرة لكل دولار، عشية وصول الرئيس الحريري إلى الحكومة، مع ما رافق ذلك من ارتفاع قياسي في معدلات التضخم الأمر الذي اضطر الحكومة إلى إقرار تصحيحين للأجور في عام واحد، وإلى تغيير سلسلة الرتب والرواتب في القطاع العام.
للوهلة الأولى قد تنطوي سياسة التثبيت النقدي على ايجابيات أهمها:
1- خفض معدلات التضخم – التي أقضت مضاجع اللبنانيين على امتداد الثمانييات – إلى مستويات متدنية، من التضخم، لا تزيد، بشكل عام، عن 4 – 6% سنوياً.
2- ساهم التثبيت النقدي في توفير استقرار نسبي في تكاليف المعيشة، وإن على مستويات عالية.
لكن هذه الايجابيات ليست سوى غيض من فيض سلبيات التثبيت النقدي التي لا تزال مفاعيلها آخذة مداها حتى يومنا هذا. ومن هذه السلبيات:
1- تعزيز دولرة الاقتصاد اللبناني عموماً، بما في ذلك الودائع والتسليفات، وإن شهدت بعض التقلبات من فترة إلى أخرى.
2- إخضاع السياسة النقدية لمتطلبات تمويل العجز المالي المتفاقم للدولة، وسط ميل حثيث للحفاظ على بنية فوائد مصرفية عالية، بما يسمح بتأمين هذا التمويل.
3- ازدياد كبير في الوزن النسبي الذي تقتطعه الفوائد المصرفية من الناتج المحلي القائم، بالتلازم مع دور متعاظم لاقتصاد الريع المرتكز أساساً على الاستثمار العقاري.
4- تفاقم التشوهات في بنية أسعار الإنتاج والاستهلاك الداخلية مما عزز إنتاج السلع والخدمات القليلة الإنتاجية، وغير قابلة للتداول (أي للتصدير). مما ساهم في إضعاف معدلات الإنتاجية عموماً في الاقتصاد الوطني.
5- الارتفاع الحثيث في سعر الصرف الخارجي لليرة اللبنانية – المرتبطة بالدولار – تجاه سلة العملات الأجنبية الأخرى، مع العلم أن الوزن النسبي لمبادلاتنا الخارجية عبر هذه العملات، يكاد يبلغ نحو نصف إجمالي المبادلات الخارجية للبلد.
6- الضمور الشديد – وفقاً لما ذكر أعلاه – في أنشطة القطاعين الصناعي والزراعي، التي انخفضت حصتهما راهناً، كنسبة من إجمالي الإنتاج المحلي إلى نصف ما كانت عليه عشية الحرب الأهلية، حسب ما تشير إليه إحصاءات المحاسبة الوطنية.
لذلك فأنه من المؤكد أن الايجابيات المتأتية عن سياسة التثبيت النقدي، لا تتناسب قط مع حجم ونوع التكاليف والمخاطر – الفعلية والكامنة – التي انطوت عليها هذه السياسة. فقد كان ممكناً تطبيق تلك السياسة بشكل موضِعي ولفترة محددة، شرط توفّر حد أدنى من التوازن في المالية العامة للدولة. غير أن الإمعان في الاعتماد على التثبيت النقدي، وسط تفاقم العجز المالي والاستدانة الداخلية والخارجية، تحوّل تدريجياً إلى سيف مسلط على رقاب البلاد والعباد. فقد أصبح التثبيت النقدي إحدى أهم الرافعات التي تتيح للطغمة المالية اقتطاع المزيد من الأرباح – عبر سياسات الفوائد والاقتراض، وهذا النسق من إدارة خدمة الدين العام – على حساب الغالبية العظمى من اللبنانيين، لاسيما منهم العمال والأجراء والفقراء وأطياف واسعة من الطبقة الوسطى.