محليات سياسية: محمد المولى البقاع الشمالي: بين الصمود الشعبي والإهمال الرسمي
عادت منطقة البقاع الشمالي إلى واجهة الأحداث، من بوابة تجدّد المواجهات العسكرية في جبال السلسلة الشرقية، المحاذية للحدود اللبنانية- السورية، والمتداخلة مع منطقة القلمون.. ومع توالي التراجعات والانتكاسات التي مُنيت بها المجموعات المسلحة التابعة لجبهة النصرة و"داعش"، في معارك الجرود الأخيرة، تتعدّد السيناريوهات المطروحة، وتتجه الأمور نحو احتمالات متعدّدة، منها احتمال أن تسعى هذه المجموعات إلى مهاجمة القرى المتاخمة، أو الدخول إلى مخيمات النازحين السوريين في عرسال ومحيطها، وتحريك خلايا نائمة متواصلة معها.
لكن ما يلفت الإنتباه هو جو الهدوء الأمني النسبي، الذي تنعم به البلدات المنتشرة على امتداد خطوط التماس مع مناطق الوجود المسلّح في الجبال، إبتداءً من القاع ورأس بعلبك شمالاً، ومروراً بالفاكهة والعين واللبوة، ووصولاً إلى يونين ونحلة وتخوم مدينة بعلبك، حيث تراجعت التوترات والأحداث الأمنية على خلفية الإنقسامات السياسية، والتحريض الطائفي والمذهبي، بسبب إستشعار الخطر الخارجي الذي يهدّد الجميع. وفي هذا المجال، فإن اللقاءات المستمرة بين الأهالي والقوى السياسية، والفعاليات المحلية، والناشطين الاجتماعيين تساهم في خلق أجواء إيجابية، وفي تفهّم الهواجس والصعوبات والتنبّه إلى المخاطر، والعمل على تداركها، بكل السبل الممكنة والمتاحة.
وقد ساهم الانتشار المكثّف للجيش اللبناني، وتموضعه القتالي في مواجهة المجموعات المسلحة الإرهابية، ورصده الدائم لتحركاتها، وصدّه لهجماتها، في تعزيز عوامل الاستقرار النسبي. ويترافق الوجود الفاعل للجيش مع الإلتفاف الشعبي حوله، وقد برز هذا الإلتفاف من خلال الترحيب الكبير الذي لاقته دورياته التي دخلت إلى أحياء بلدة عرسال، في إطار بعض المهام الأمنية، كما ظهر من خلال تضامن سكان القرى وتأييدهم لدوره.
من جهة ثانية، تشهد البلدات البقاعية حالات من اليقظة والحذر، مترافقة مع أجواء من التآزر بين الأهالي تتجاوز الخلافات والتباينات السياسية المحلية والعامة. ويشارك متطوعون في الحراسة والمراقبة عند أطراف القرى، وعند الممرات والمسالك المتصلة بالجرود.. كما أن مساهمة أطراف علمانية ويسارية في حماية البلدات تفعّل مقومات الصمود وتعطي للمواجهة بُعدها الوطني العام.
إلّا أن الوضع الشعبي اليقظ، والتآزر الأهلي المميّز يترافقان مع الصعوبات المعيشية، سواء المزمنة منها أو المستجدّة، إذ يستمر الجمود في الحركة الاقتصادية في مختلف المجالات الزراعية والتجارية والسياحية والصناعية، مترافقاً مع الإهمال الرسمي على مختلف الأصعدة الحياتية والخدماتية.
فالقطاع الزراعي يعاني من كلفة الإنتاج المرتفعة، ومن إغلاق أبواب التصدير، وتحكّم كبار التجّار بأسعار الأدوية والأسمدة والمبيدات والمنتوجات الزراعية. كما أن المزارعين لا يستطيعون الوصول إلى حقولهم وبساتينهم في المناطق الجبلية في جرود عرسال والفاكهة ورأس بعلبك، بسبب وجود المجموعات المسلّحة، أو بسبب المعارك العسكرية، والمخاوف الأمنية.
وتشهد الحركة التجارية المحلية ركوداً مستمراً، ولا تتعدّى حدود المستلزمات الحياتية الضرورية، ومن المعروف أن الأحداث السورية أدّت إلى تقلّص التواصل التجاري مع السوق السورية القريبة.
وتترك الأحداث المتلاحقة منذ أكثر من ثلاث سنوات آثاراً سلبية على القطاع السياحي، وعلى المطاعم والمقاهي المنتشرة على ضفاف نهر العاصي، وعلى المهن المرتبطة بقطاع البناء، وعلى عمل الكسارات ومناشر الحجر في عرسال، وعلى الأعمال الحرفية والصناعية الصغيرة..
ويزيد الأمور سوءاً تدهور حال الخدمات، من كهرباء وماء ومواصلات وصرف صحي وغير ذلك.. حيث تحوّلت معظم الطرقات إلى حفر و"مطبّات"، وحيث تفتقد المنطقة إلى مستشفيات ومراكز صحية متطورة، كما يغيب التخطيط والتنظيم العمراني، والإرشاد الزراعي، وتنتشر البطالة، وتزيد معدلات الفقر..
ويتطلّع المواطنون إلى اليوم الذي يتخلّصون فيه من المخاطر المحيطة بهم، ويستعيدون فيه الحدّ الأدنى من الحياة الطبيعية في منطقة شهدت، عبر تاريخها، تفاعلاً وتداخلاً وترابطاً إجتماعياً وسياسياً وإقتصادياً مميّزاً، إذ تحولت القرى والبلدات إلى ما يشبه البلدة الواحدة، فكانت القضايا التي تجمعها أقوى من عوامل التفرقة التي سعت القوى السلطوية الطائفية إلى استغلالها والنفخ في نارها.