مر الكلام: نديم علاء الدين فيلم التعذيب من رومية إلى الوطن
انشغل لبنان بأفلام الفيديو المنشورة على مواقع التواصل الاجتماعي، والمسربة من سجن رومية، عن عمليات تعذيب وحشية مارستها عناصر من شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي على عدد من السجناء، بالإضافة إلى نشر عشرات الصور التي توثق هذه العمليات. وهو ما أدى إلى حالة من الغليان الشعبي في العديد المناطق، لا سيما طرابلس وعكار والبقاع وبيروت وصيدا. تخللها قطع للطرقات بالإطارات المشتعلة، وانطلاق مسيرات تندد بالانتهاكات التي تعرض لها السجناء، وترفع شعارات سياسية وطائفية متعددة الاتجاهات.
من الطبيعي أن تثير مشاهد التعذيب لعدد من الموقوفين والسجناء في رومية هذه الموجة من السخط والاحتجاج، لأن الجريمة وشكلها يستفز الضمائر والعقول والمشاعر والقلوب. وهي جريمة غير مبررة على الإطلاق، بل هي جريمة موصوفة تسيء إلى اللبنانيين جميعاً، وتستدعي إجراء تحقيق شامل للاقتصاص من الفاعلين وإلحاق أشد العقوبات بحقهم.
لكن، مع ذلك، ثمة أسئلة كثيرة تفرض نفسها حول تلك الأحداث، بما يتجاوز حجم ما جرى على يد بضعة عناصر من القوى الأمنية داخل السجن. أسئلة حول توقيتها وطريقة تسريبها وتعميمها اللاحق، وحول وظيفتها وأهدافها الحقيقية.
لعل السؤال الأول المطروح في هذا المجال هو لماذا جرى تسريب هذه الأفلام وتعميمها اليوم، مع العلم انها قد صورت منذ أوائل نيسان الماضي أي قبل ثلاثة أشهر؟ ليليه سؤال ثان عن كيفية تصوير هذه المشاهد ومن قام بها، وبالتالي أية جهة كلفته حتى تحتفظ بالأفلام كل هذه المدة بانتظار اللحظة التي تراها مناسبة لتسريبها؟ وبالتالي ما هو الهدف الحقيقي من اصطياد هذه المشاهد وتعميمها في هذه اللحظة الزمنية بالذات؟ ما يعزز الاعتقاد بأن هناك تخطيطاً وحسابات سياسية وراء كل هذا التسريب والتعميم أبعد من القضية الإنسانية.
بداية لا بد من الذهاب مع القول بأن المستهدف الأول من وراء عملية التصوير وافشائها هو وزير الداخلية نهاد المشنوق، لدوره في مواجهة إمارة سجن رومية، من جهة، ولموقعه داخل تيار المستقبل كجزء من صراع على النفوذ وتصفية حسابات داخلية، من جهة ثانية، يعزز هذا الاعتقاد المشهد الذي سجل بعد تسريب الفيديو سواء كان على مستوى المواقف التي أعلنت ضده، أو على مستوى ردود الفعل وقطع الطرق، وخصوصاً الاعتصامات والتجمعات الليلية التي حصلت بعد المؤتمر الصحافي الذي عقده وأعلن فيه تحمله للمسؤولية والعمل على معاقبة الجناة.
لكن، من خلال التدقيق في الوقائع التي جرت خلال الأسبوع الماضي، ومحاولة تفسيرها ربطاً بما يجري على صعيد البلد وخارجه، يتبين ان القضية تتجاوز استهداف المشنوق، وان كان واجهتها، فلو اقتصر الأمر على النيل منه لكان عرض الفيديو وقت حصول التعذيب أفضل بما لا يقاس من عرضه اليوم، من هنا يتخذ توقيت العرض وإثارة القضية بعداً آخر يؤسس لمرحلة جديدة نلحظ فيها الآتي:
ـ لقد اختارت الجهة التي قامت بعملية التسريب بداية شهر رمضان بقصد تأجيج المشاعر واستغلالها للنزول الى الشارع، من اجل رفع منسوب التحريض بكل الاتجاهات.
ـ ان النزول الى الشارع في طرابلس وصيدا والطريق الجديدة وسعدنايل وبر الياس وبيروت في وقت واحد، ونوعية المشاركين فيه، يؤكد ان هناك جهة مؤثرة هي التي أعطت الضوء الأخضر لهذه التحركات، بحيث بدا المشهد فيها انه عملية منظمة تحاول اختبار قدراتها ولم الشارع حولها اكثر منه رد فعل عفوي.
ـ في هذا المجال نلاحظ ان الاحتجاجات التي عمت صيدا كان الدور البارز فيها لـ «الجماعة الاسلامية» التي طغى وجودها على تلك التحركات التي انطلقت كتظاهرات في شوارع المدينة، اضافة الى الاعتصامات في المساجد. حيث تمكنت من تحريك الشارع جامعة أطياف متعددة من صيدا كافة، بما فيها الحالة السلفية المتشددة التي خرجت الى الشارع، ومن ضمنها أنصار احمد الأسير. وهو ما يشير الى دور جديد ومتعاظم لهذه الجماعة على حساب تيار المستقبل ولا يبعد عن هذا السياق تتويج احد قادتها رئيساً لهيئة العلماء المسلمين في ظل حشد علمائي ملفت.
ـ في ظل هكذا مناخات من غير المستبعد ان تكون عوامل عديدة تتقاطع داخلياً وخارجياً التقطت فرصة تعذيب السجناء لتصفية الحساب مع تيار المستقبل وازاحته عن الواجهة تمهيداً لتقدم القوى المتطرفة وامساكها بالقرار مكانه.
من ضمن هذه التقاطعات يمكن ان نتوقف عند التصعيد السعودي في ظل القيادة الجديدة غير المرحبة بسعد الحريري، ولا تجد في تيار المستقبل نوعية قادرة على ترجمة توجهاتها، من هنا حاجتها الى قوى التطرف لإشغال الساحة الداخلية بدءاً من تخفيف الضغط عن الإرهابيين في جرود القلمون وعرسال وصولاً الى التعويض عنهم في حال جرى تحرير تلك المناطق وصولاً إلى إلهاء حزب الله وتعطيل عمله ومشاركته في سوريا الى جانب النظام.
ـ في السياق نفسه تندرج أحداث عين الحلوة الأخيرة، حيث تشير المعطيات الى ان الحالة المتطرفة ازدادت عدة وعديداً وإمكانيات عسكرية على مرأى ومسمع كل الفصائل الفلسطينية التي أخذ دورها ووزنها بالتراجع بشكل ملحوظ باتت معه عناصر تلك الجماعات ممسكة بخمسة من أحياء المخيم الرئيسية بعد أن كان نفوذها ووجودها الفاعل محصوراً فقط في حيين رئيسيين.
هذا التقدير لمنحى الأحداث واحتمالات تطورها تعززه الوقائع اليومية من شحن وتحريض مذهبي وعودة التوترات الأمنية خصوصاً الى طرابلس، التي اطلقت فيها الشائعات حول ذلك على امتداد الاسابيع الماضية، بما يشير الى وجود خطة تهدف الى تسخين الوضع في طرابلس لإلهاء الجيش بسلسلة اعتراضات ومواجهات تسحب عنه الغطاء الشعبي وتمنعه من القيام بواجباته في حفظ الأمن، ارتباطاً بتطورات أمنية محلية وإقليمية مقبلة، قد يكون لها تداعياتها على منطقة الشمال وعاصمتها طرابلس.
فهل الرسائل الدولية والإقليمية التي توالت في الأيام الماضية إلى المسؤولين اللبنانيين المحذرة من المخاطر الأمنية، والقلقة من الوضع في المخيمات، تندرج في توضيح تلك الصورة. وبالتالي تكون وظيفة فيديو التعذيب في رومية شدّ عصب الجماعات الإسلامية المتطرفة، ويتحول من فيلم تعذيب في رومية الى الوطن.