الحدث: مصطفى العاملي فضيحة سجن رومية امتداد للأزمة الشاملة ووحدة البلد باتت جدّياً على المحك
من الطبيعي في بلد يحكمه الفراغ وتتحكم فيه الفوضى وتدّوي في جنباته مواقف ومشاعر الحقد الطائفي والمذهبي، أن نشهد فضيحة رومية، وهي نموذج مصغر لمسلسل من الفضائح التي تحصل في كل الإدارات والمؤسسات وبأشكال مختلفة، ومن سوء حظ الذين اعتدوا على بعض الموقوفين، أن هناك، ولأسباب مبيتة وخبيثة، من صوّر تلك الممارسات اللاإنسانية لعناصر شعبة المعلومات، في حين أن هناك ممارسات وجرائم أفظع ترتكب وتبقى طي الكتمان، لا بل أن أصحابها، وهم كالعادة من كبار القوم يسرحون ويمرحون ويعطون الدروس في الأخلاق والعفة ونظافة الكف.
واللافت أن ردود الفعل على ما حصل قبل شهرين في سجن رومية تجاوزت الفعل بحد ذاته وركزت على الجهة التي سربت شريطي الفيديو والأهداف الكامنة وراء هذا التسريب وتوقيته واستغلاله سياسياً وأمنياً، مع العلم أن السجون في العالم العربي، أو التي تتعامل مع الإنسان العربي (غوانتانامو مثلاً)، تضج بمثل هذه الممارسات القمعية، ففي كل سجن عربي هناك "عشماوي" متخصص يعذب السجناء والموقوفين وتجريدهم من حقوقهم الإنسانية، وكل ذلك تحت سمع ونظر وموافقة المسؤول، وما يقال عن ممارسات وأخطاء فردية، ما هي إلا تبريرات غير مقنعة لإبقاء صورة هذا المسؤول بعيدة من الشوائب.
قد تمر هذه الفضيحة كغيرها ويحاسب بعض العناصر الذين نفذوا الأوامر العليا، ولكن من أمر بالتصوير والاحتفاظ بأشرطة الفيديو لمدة شهرين، ثم أفرج عنها عبر وسائل التواصل الاجتماعي سيبقى مجهولاً حتى ولو تمكنت التحقيقات من كشف هويته أو هوياتهم، فالحصانات النيابية والوزارية، ومقتضيات "المصلحة الوطنية" و "العيش المشترك" وما الى ذلك من مفردات كانت السبب الأساسي في ما وصل اليه البلد، تستدعي ابقاء الأمر طي الكتمان، وفي ذلك مصلحة لكل الطبقة السياسية الحاكمة، لأن الكشف عن ملف سيرفق بالكشف عن ملف هناك، فالكل تحت الغربال، وبالتالي لا داعي لفتح الأبواب المغلقة، التي إذا فتحت ستفوح منها الروائح العفنة، أين منها روائح ويكيليكس التي يكشف عن بعضها هذه الأيام وتدل على مدى ارتهان المسؤولين اللبنانيين، وخصوصاً أولئك الذين يتغنون بالسيادة والاستقلال عن الخارج وسفاراته ومبعوثيه.
فضيحة سجن رومية ستبقى تشغل الرأي العام اللبناني لأيام عدة، وستطوى بعدها من دون أن يعرف أحد كيف ولماذا والى أين وصلت التحقيقات، والسؤال ما هي القضية الأخرى التي سيتم تسليط الأضواء عليها لتحجب ما قبلها وتلهي اللبنانيين بها لبعض الوقت المستقطع.
أما المفارقة التي لا بد من الإشارة اليها فهي هذه السرعة التي تم فيها استغلال الحادثة، سياسياً ومذهبياً، فما أن ظهر شريطا الفيديو على الفيسبوك، حتى سقطت كل المحرمات، وبات المسرح مجهزاً لكل المشاهد المبرمجة. اعتصامات تتنقل بسرعة البرق من عكار مروراً بطرابلس والعديد من قرى البقاعين الأوسط والغربي، وصولاً الى الطريق الساحلي (خلدة الناعمة)، الى صيدا، وكلها تحمل وزير الداخلية نهاد المشنوق المسؤولية وتطالب بإقالته، وبما أننا في شهر رمضان فالفرصة مؤاتية لاستغلال المساجد في إثارة النعرات المذهبية.
وهذا يؤكد أن هناك من أعطى الضوء الأخضر لمثل هذه التحركات وتوجيهها ضد الوزير المشنوق الذي سارع الى التأكيد بأن هذه القضية لا تخدم في النهاية سوى داعش والنصرة، الأمر الذي أثار حفيظة زميله وزير العدل أشرف ريفي، المتهم الأول بالتسريب وبتحريض المشايخ والمتشددين في طرابلس، الذين سارعوا خلال اليومين الماضيين الى القيام بسلسلة تحركات على الأرض ليلاً، هزت الى حد كبير الخطة الأمنية التي يجري تنفيذها في عاصمة الشمال، وأعادت المظاهر المسلحة الى بعض الأحياء في المدينة، مترافقة مع رفع أعلام الجماعات الإرهابية التي سارعت الى أخذ دورها ليكتمل السيناريو من خلال ربط مسألة موقوفي رومية بالعسكريين المخطوفين، مما أثار أهالي هؤلاء الذين نزلوا بدورهم الى الشارع، مما ضاعف من وتيرة الفتنة المذهبية لاسيما أن الوزير ريفي ولإبعاد أصابع الاتهام التي وجهت اليه مباشرة، ووضعت الحادثة في خانة تصفية الحسابات بينه وبين الوزير المشنوق، وبناء لأوامر وتوجيهات وضغوط من السعودية والرئيس سعد الحريري، سارع بعد زيارته وزير الداخلية الى اتهام حزب الله الذي نفى نفياً قاطعاً هذه التهم جملة وتفصيلاً.
إذاً، ستتصدر هذه القضية الاهتمام السياسي والقضائي والإعلامي لأيام عدة، وستطغى على بقية الملفات والأزمات التي يتخبط بها البلد، وخصوصاً الأزمة الحكومية الناجمة عن الخلافات بشأن التعيينات العسكرية والأمنية، والواضح أنها ستطول نتيجة تمترس كل الأطراف خلف مواقفها، ذلك أن العماد ميشال عون وصف بعد اجتماع تكتل التغيير والإصلاح، المحاولات الجارية لعقد جلسة لمجلس الوزراء بالاحتيالية، مؤكداً في الوقت نفسه على ضرورة تطبيق الاتفاقات، بشأن تعيين قائد جديد للجيش، وهناك من يؤكد أن هذه القضية اليوم، هي الأساس، ذلك أن كل الأطراف تريد الإمساك بقرار المؤسسة العسكرية، في هذه الفترة بالتحديد، وبالتالي ليس لدى أي من الأطراف المتصارعة استعداد للتنازل في هذا المجال، كما هو الحال بالنسبة الى رئاسة الجمهورية.
وانطلاقاً من هذه القراءة يجد رئيس الحكومة تمام سلام، نفسه في وضع لا يحسد عليه، فهو من جهة غير قادر على دعوة مجلس الوزراء للانعقاد ولم يتأمن الحد الأدنى من التوافق على جدول الأعمال، وبالتالي لديه خشية حقيقية، من أن تؤدي مثل هذه الدعسة الناقصة الى تفجير الحكومة من داخلها، وهذا ليس في مصلحة جميع الأطراف، التي ما زالت ترى في هذه الحكومة كياناً دستورياً شرعياً، في ظل الفراغ المتواصل في رئاسة الجمهورية، والشلل المتمادي للمجلس النيابي الممدد لنفسه مرتين والحبل على الجرار في مثل هذه التطورات التي يشهدها البلد.
وهو، أي الرئيس سلام، لا يستطيع الاستمرار في التريث وعدم ممارسة مسؤولياته الى ما لا نهاية، لأن في ذلك تنازلاً عن صلاحيات رئاسة الحكومة "المؤتمن عليها" وأنه سيدعو في النهاية الى عقد جلسة لمجلس الوزراء بالتعاون والتنسيق مع الرئيس نبيه بري الذي تعهد له بتوفير نصابها وميثاقيتها، ولو أدى هذا الأمر الى إحداث فجوة في العلاقة مع حليفه حزب الله وحليف حليفه ميشال عون.
على كلٍ الاتصالات متواصلة على أكثر من خط للوصول الى تسوية من شأنها إعادة تحريك عجلة الدولة ولو بالحد الأدنى لأن الجميع مقتنع أن المرحلة ليست للحلول الجذرية، في ظل انشغال المجتمع الدولي بالقضايا الإقليمية خصوصاً في الساحات الساخنة في سوريا والعراق واليمن وحتى السعودية، فضلاً عن إتمام التوقيع على البرنامج النووي الإيراني، حيث التجاذبات ما زالت قائمة بين طهران وعواصم الغرب حول تفتيش مواقعها العسكرية، الأمر الذي تعارضه القيادة الإيرانية بالملف وتشدد في المقابل على رفع العقوبات الاقتصادية.
وبغض النظر عن الآراء والطروحات التي يجري تداولها بين القوى السياسية للابقاء على الحكومة، فإن هناك مخاوفاً جدّية من أن يلجأ العماد عون الى قلب الطاولة على رؤوس الجميع مستفيداً من دعم حزب الله والمردة والطاشناق له، وهذه المكونات الأربعة ليس باستطاعة سلام تجاوزها في حال فكر في دعوة مجلس الوزراء للانعقاد، مع العلم أن مصادر دبلوماسية أبلغت المعنيين، أن إسقاط الحكومة سيكون له تداعيات سلبية على مجمل الوضع اللبناني، ويمكن أن يؤدي الى رفع الغطاء الدولي الذي ما زال حتى الآن يحول دون انزلاق لبنان الى الفوضى الكاملة والفلتان الأمني، وخصوصاً أن الجماعات الإرهابية ومن يدور في فلكها من قوى طائفية متطرفة، يمكن أن تعمد في أي وقت الى استغلال ما يجري لاستئناف عملياتها الإجرامية في العديد من المناطق اللبنانية في محاولة لفك الحصار المضروب حولها في جرود عرسال التي انتقلت اليها بعد انسحابها مهزومة من جرود القلمون.
وتحذر مصادر سياسية من أن هذا الفراغ الدستوري الذي يكاد يكون شاملاً، وانسداد أفق الحلول ولو المؤقته، سيعزز طروحات التقسيم والفدرلة التي بدأت تجد لها آذان صاغية لدى فئات لبنانية غير تلك القوى التي كانت تنادي بها سابقاً.
يمكن أن تصح الكثير من السيناريوهات في تشخيص الأزمة التي يتخبط بها لبنان، ولكن معظمها لا تصل الى لب المشكلة، ألاّ وهي النظام الطائفي المتهالك الذي يولّد الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، ومن دون وضع تصور واضح لكيفية الخلاص منه، سيبقى البلد على كف عفريت، وشعبه معرض إما للاذلال وإما للهجرة، وهذا الواقع من مسؤولية الجميع ولا سيما القوى الوطنية الحقيقية صاحبة المصلحة في التغيير، وهي مطالبة اليوم بلعب دورها قبل أن تقع الفأس بالرأس ونبكي في المستقبل وطناً لم نستطع المحافظة عليه وحمايته من الرياح الخارجية التي تعصف به.