أثينا اليونان: وليد نسيب الياس فوضة أميركا الخلاقة في العراق ودول الجوار
تعمدت الولايات المتحدة الأميركية منذ غزوها للعراق عن غير وجه حق في عام 2003 وحتى حينه تكتيكا استراتيجيا سمّته الفوضى الخلاقة. ومن هذا السياق، أصدر الكونغرس الأميركي مؤخراً قانوناً يفرض شروطاً لتخصيص مساعدات عسكرية أميركية للعراق بقيمة 715 مليون دولار من ميزانية الدفاع لعام 2016.
وينص القرار على تخصيص المبلغ المذكور للقوات المشاركة في القتال ضد تنظيم داعش الارهابي، على أن يذهب 25% منه مباشرة إلى قوات البشمركة الكردية والقوات السنية.
واشترط القرار صرف الـ75% المتبقية بعد أن تقدم وزارتا الدفاع والخارجية ما يثبت التزام الحكومة العراقية بعملية المصالحة الوطنية. وفي حال تعذر ذلك، يذهب 60% من المبلغ المتبقي للقوات الكردية والسنية بشكل مباشر. تريد واشنطن أن تتعامل مع قوات البشمركة ومقاتلي العشائر السنية ككيانين منفصلين عن الجيش العراقي والحكومة العراقية بحيث تستطيع رسميا تقديم الدعم المباشر لهما دون الحاجة إلى الرجوع للحكومة العراقية.
وجاءت ردود الفعل العراقية كفقاقيع الصابون في هواء العراق ودول الجوار التي تمزقها الصراعات الطائفية والاثنية والأهلية، فقد أعلنت الحكومة العراقية رفضها قانون الكونغرس بشأن تسليح الاكراد والسنة في العراق بشكل مباشر والتعامل معهما كـبلدين. ورأى النواب الأكراد والسنة أن ما دفع الأميركيين إلى طرح مثل هذا المشروع هو "التهميش والإقصاء" التي تنتهجهما الحكومة ازاء السنة والكرد.
وروجت وسائل الإعلام الغربية لتغيير الإستراتيجية الأميركية في العراق، ولاسيما تلك المتعلقة بمحاربة تنظيم داعش الإرهابي، فيما الواقع يدل أن الديكتاتورية الأميركية في العراق لا تصدر أي قرار هي في غنى بالأصل عنه، إلا في حال موافقة المركز الأميركي والغربي عليه، كونه يخدم مصالحها المرحلية والمتوسطة والبعيدة المدى، ولا يخدم مصالح العراق الموحد والمستقل. وأن الفوضى السياسية الأميركية في العراق ودول الجوار لم يطرأ عليها تغيرا يذكر، لا بل تعزز دور العامل الأميركي الذي يعلم أن العلاقات الدبلوماسية مع دول الشرق الاوسط لم تعد مجدية ومنتجة كون الأنظمة العربية بعد احتلالها للعراق لم تعد تهدد أمن أميركا وإسرائيل والغرب، وأن التهديدات الحقيقية تكمن وتتسع رقعتها داخل الدول ذاتها حسب ما ذكر الرئيس باراك أوباما، على سبيل المثال تنظيم القاعدة وأخواته "داعش" و"النصرة" وغيرها من التنظيمات التي ترعاها بشكل مباشر وغير مباشر أميركا كي تسخر أعمالها الإرهابية في خدمة الفوضى الخلاقة الأميركية.
وحقيقة ما يشهده العراق والمنطقة برمتها هو إعادة بلورة للدور الأميركي في صراعات المحاور الإقليمية بين المحور الاسرائيلي والسعودي والتركي والقطري والأردني والمحور الايراني والعراقي والسوري وحزب الله اللبناني. وقد تعمدت واشنطن تحميل المحور الأول مسؤولية التدخل العسكري في اليمن والعراق وسوريا ولبنان لاحقا اذا خدم ذلك مصالح أميركا وإسرائيل، وفتحت خطا مع محور "الشر "الايراني (والخير اذا صح التعبير) الذي تتعاون معه بشكل علني وخفي في محاربة تنظيم داعش الارهابي في العراق.
ويعكس هذا الواقع أن تغيير الحدود في العراق وتقسيمه الى ثلاث دول شيعية وسنية وكردية، هي ورقة بيد الولايات المتحدة التي كان قد أكد نائب الرئيس الاميركي "جو بايدن" دعمه لخطة تقضي بتقسيم العراق إلى ثلاث مناطق تتمتع "بحكم ذاتي": للشيعة والسنة والأكراد ، ونشر اقتراحه في صحيفة "واشنطن بوست" بتاريخ آب - اغسطس 2014، كوسيلة لتجاوز الانقسامات في العراق على حد قوله، علماً أن الصراعات الدموية أججتها أميركا بالرغم من وجود فتيل الأزمة التاريخي بين السنة والشيعة والأكراد. حيث خلف التدخل الأميركي أكثر من مليون ضحية بمعدل مئة ضحية يوميا في العراق منذ عام 2003، فضلاً عن مئات آلاف الجرحى والمعاقين واليتامى.
وقرار الكونغرس وما يسمى السياسة الأميركية في محاربة تنظيم داعش الارهابي التي تعتمد خيار الضربات الجوية والامتناع عن إرسال قوات برية أميركية إلى العراق، لم تستطع صد سقوط مدينة الانبار العراقية بيد داعش، ولم تمنع من سقوط جسر الشغور ومدينة تدمر السورية بيد تنظيم النصرة الارهابي، لا بل عزز الانقسام العامودي داخل الجسم السياسي والاجتماعي العراقي عبر إثارة النعرات المذهبية والطائفية والعرقية من خلال فتح قنوات مباشرة مع العشائر السنية وقوات البشمركة وربط دعم قوات الحشد الشعبي الشيعية بانضمامها تحت لواء الجيش العراقي الذي انهار امام داعش بسبب ضعف العامل الوطني والسيادي العراقي وتقدم العامل المذهبي والفئوي والفساد .. وارتباطه بقيادة دينية تارة تعلن أنها ضد الاحتلال الأميركي، وتارة تعلن ولاءها للمحتل الأميركي .
وشبه الصحافي البريطاني "بتريك كوكبرن" الإستراتيجية الأميركية تجاه داعش بأنها مثل "أليس في بلاد العجائب"، فواشنطن تريد أن تقاتل داعش لكنها في الوقت عينه تقاتل أي قوة تحارب التنظيم الإرهابي، كون الدولة الرئيسية التي تحاربه هي إيران التي تدعم الحكومة العراقية الشيعية، وكذلك من الذين يحاربون بجدارة تنظيمي داعش والنصرة حزب العمال الكردستاني في العراق وسوريا، وحزب الله اللبناني في لبنان وسوريا، المدرجين على لائحة الإرهاب الأميركية، فيما حليفا أميركا إسرائيل والسعودية هما من الممولين الرئيسين للإرهاب في العراق وسوريا .
وتدل الفوضى الخلاقة الأميركية أنها لا تريد التدخل العسكري البري في العراق وسوريا في المرحلة الآنية لا بل تدفع وتضغط على قوات مجلس الخليج العربي للتدخل العسكري البري في العراق، على غرار الضربات الجوية في اليمن كي تصب النار على زيت الحرب المذهبية السنية والشيعية في المنطقة والتي كانت قد اشعلت فتيلها عبر احتلال العراق كونه المركز الرئيس الذي يفصل بين المحور الإيراني الشيعي والمحور السعودي السني. وهكذا تستطيع أن تراقب عن بعد إراقة الدماء بين المحورين مما يسمح لها بمقاتلة القاعدة وأخواتها الإرهابية بأيدي شيعية (إرهابية حسب التوصيف الأميركي)، ورفع صادراتها الحربية إلى المحور السعودي، وحماية أمن إسرائيل عبر انشغال حزب الله بمحاربة النصرة وداعش وتفكيك دول المنطقة إلى دويلات طائفية وفقاً للنموذج اليهودي الإسرائيلي.
ومن الصعب جداً في الوقت الراهن أن يتوقع المراقب متى سيتوقف نهر الدم السائل في العراق وسوريا واليمن، حتى ولو توصلت أميركا إلى اتفاق بشأن برنامج إيران النووي في نهاية شهر حزيران يونيو المقبل، فمصير المنطقة برمته يتحكم فيه مركز القرار الأميركي الذي نقل حربه ضد الإرهاب إلى أراضي العراق وسوريا واليمن ولبنان، وطالما القوى الإقليمية تحاول أن ترفع من قدرة قبضتها وتدخلها في الشؤون السياسية الداخلية لدول المنطقة العربية التي ما زال العامل الوطني العربي متراجعا أمام العوامل الدينية والمذهبية والطائفية والعرقية، مما سيؤدي بصورة حتمية إلى تقسيم العراق وسوريا واليمن وليبيا أسوة بتقسيم السودان.
والحرب على منظمتي داعش والنصرة الإرهابيتين ليست بحاجة إلى عمل أحادي أو دعم أميركي بقيمة 750 مليون دولار نهبت أصلاً من نهبها لثروة العراق النفطية، بل تحتاج إلى عمل جماعي وبناء جيش عراقي وطني غير خاضع لخدمة المحاور القطرية والإقليمية الخاضعة إلى الطبقة العالمية الجديدة الأميركية أو لتحالف دول "بريكس" بقيادة روسيا والذي ما زال هش العظام.