عيد التحرير: علي غريب التحرير الناقص
من صيدلية بسترس إلى محطة أيوب، انطلقت صباح العشرين من أيلول 1982 عمليات المقاومة الوطنية لتحرير لبنان من العدوان الإسرائيلي، تنفيذاً لقرار ج.م. والتي أُعلنت في 16 أيلول، وهي تعرف أنها مهمة صعبة، وأن التحرير ثمنه الدماء، لكنها كانت على ثقة أن عملياتها الأولى ستتحول إلى كرة ثلج، وتعلم أيضاً أن ثمن التحرير سيكون عظيماً، ينقل البلد من ثقافة الضعف إلى واقع القوة، وأن الجيش الإسرائيلي "الذي لا يقهر" سيجرجر اذيال الهزائم والخيبات المتواصلة. مقاومة انطلقت بهدف تغيير الواقع السياسي الذي سعى العدو الإسرائيلي وحلفائه في لبنان يومذاك إلى تثبيت سلطة فاشية على صداقة كاملة مع العدو، مقاومة هدفت إلى نقل البلد من الاستسلام ومن التفكك الذي أصابه طيلة تاريخ طويل من الحروب المدمرة والخضوع للوصايات المتعددة، إلى بناء وطن حقيقي ودولة مدنية حديثة.
تلك كانت أحلام وأماني أبطال ج.م. وأحزابها. ولم تكن مقاومة (جمول) بتاريخيتها سوى امتداد لتاريخ طويل وثقافة مخزونه لدى شعبنا اللبناني، في مقاومته للغزاة والمستعمرين، ولاسيما منهم ثقافة وتاريخ أبناء الجنوب، الذين لم يستكينوا يوماً أمام احتلال أو اغتصاب منذ ما قبل (ارتحششتا) وصولاً إلى العدو الصهيونيي مروراً بالمماليك والعثمانيين والفرنسيين. مقاومة وطنية لم تأتِ من فراغ بل وراءها تاريخ عظيم من مقاومات شعبنا اللبناني المتنوعة، ومنها مقاومات ذات طبيعة طبقية تمثلت بانتفاضات عامية شعبية، إلى المقاومة الوطنية الكبرى، هذا هو التاريخ الحقيقي لشعبنا، بينما حكمته طبقة سياسية رأسمالية - طائفية لم ترَ من هذا التاريخ سوى استغلال الشعب وتقسيمه إلى طوائف جرّته إلى حروب أهلية دورية، مرتهنة إلى الخارج وآخر اهتماماتها المصلحة الوطنية اللبنانية. كانت انطلاقة الرصاصات الأولى (لجمول) إعلاناً حياً في الاتجاه المعاكس للاستسلام والعمالة، مقاومة امتدت عبر انتفاضات القرى والمدن إلى كل وادٍ وتلة لتتحول بعدها إلى شواهد للتاريخ البطولي للتحرير.
في عيد التحرير يستعيد الجنوبيون ملامح تاريخهم، وتستعيد مدن وقرى لبنان بطولات أبنائها وأسماء شهدائها ويتجدد حبل السّرة من صادق حمزة وادهم خنجر ومحمود بزي والسيد شرف الدين إلى يسار ولولا وسناء وجمال وأحمد وبلال وميشال وزيد والقبرصلي ومغنية والآلاف غيرهم.
لقد حقق المقاومون تحرير هذا الوطن الصغير، المثقل بهمومه ومشاكله الاقتصادية وحروبه الأهلية، البلد الاستثناء من بين الدول العربية، بقدرته على هزيمة إسرائيل، فكان النصر عربياً وكانت الانتفاضات الشعبية في فلسطين، واحتذى المقاومون العراقيون الطريق ذاته فحرروا وطنهم من الغزو الأميركي - الأطلسي وفتحت المقاومة عصراً جديداً في المنطقة تستكمل صورته الانتفاضات الشعبية العربية. المقاومة في لبنان بكل مكوناتها وأحزابها أجهضت إستراتيجية العدو التي كانت قائمة على تأمين التفوق العسكري على الجيوش النظامية، نجحت في ذلك لكنها واجهت خصماً من نوع آخر، هي مقاومة الشعوب وعملياتها الفدائية والانصارية فتعطّل تفوقها الاستراتيجي ونقلت المواجهة إلى حيث يريد الشعب مستخدماً أفضل استخدام قوته التي لا تقهر. أنها نقلة نوعية جديدة في تاريخنا المهزوم، لكن حماية النصر والتحرير أعظم كلفة من إنجازه، لقد انهزم العدو وعملاؤه، وعاد الناس الشرفاء الفقراء إلى بيوتهم، على أمل انتظار ولادة وطن بحجم التضحيات، وطن يعيش فيه مواطنون دون بؤس وشقاء وهجره. وطن متحرر من الوصايات، والمؤسف أن النور الذي انتشر صباح يوم التحرير كشف أيضاً أن السلطة القائمة على الشراكة بين الرأسماليين وأمراء الطوائف، استمرت بسياسة المحاصصة ومحاصرة الفئات الشعبية بمزيد من الضرائب والبطالة، أدت إلى هجرة واسعة بين شبابنا وأبقت المجتمع رهينة للانقسامات المذهبية والتبعية الكاملة للوصاية السورية، وبدلاً من تخفيف أعباء المعيشة على أهل المقاومة تعمقت الأزمة والمخاطر متهددة مستقبل شعبنا وشبابنا ووطننا. وبقي لبنان ساحة مفتوحة لكل أنواع الصراعات المذهبية والإقليمية يُستدرج إليها اللبنانيون وتُستدرج المقاومة إلى محاور الانقسامات، في الوقت الذي ينبغي أن تتحول بعد التحرير إلى رافعة للتغيير ولتوحيد المجتمع والوطن. وهو ما تتحمله الطبقة السياسية التاريخية التي حكمت البلد حيث أوصلت الانقسامات العمودية والأفقية فيه إلى أبعد المخاطر، تحولت معها فئات شعبية كبرى إلى كتل مسلوبة الإرادة، تحكمها ثقافة الخوف من الآخر.
هذا الواقع المأزوم يتطلب من القوى الوطنية وأحزاب التغيير أن تقدم إجابات واقعية لإنقاذ البلد قبل انهيار الهيكل، تبدأ من إعادة بحث استكمال تحرير ما تبقى من أراضينا المحتلة والتخلي عن المقايضات التي يدفع ثمنها أهل المقاومة والفئات الشعبية. فالمعنى الوطني لجبهة المقاومة الذي كان وما زال يؤكد عليه الشيوعيون هو التلازم بين المهمة الوطنية للمقاومة المتمثلة بتحرير الأرض وبين الوظيفة الاجتماعية العامة كمهمة مجتمعية لتحرير الإنسان.
إن الواقع المأزوم للبلد يتطلب اليوم من جميع مكونات المقاومة وأحزاب التغيير إن تقدم إجابات واقعية لإنقاذ البلد قبل انهيار الهيكل، لتعيد الأمل إلى مَن قاوم ومن عانى عذابات الأسر ومَن دفع ثمناً لتحرير الوطن، بعقد مؤتمر إنقاذي لبناء وطن حقيقي ودولة مدنية عادلة متحررة من المحاصصات والمقايضات والوصايات وواضحة الهوية والانتماء.