كلمة: موريس نهرا الشغور الرئاسي بين تعطيل الداخل وانتظار الخارج
ها قد مضى سنة وبضعة أيام على انتهاء ولاية الرئيس السابق للجمهورية، وما زال موقع الرئاسة شاغراً. ويترافق هذا الشغور مع مجلس نيابي مدّد لنفسه مرتين، وهو عاطل أو شبه عاطل عن العمل. ويكتمل "النقل بالزعرور"، في حكومة تتميز بالضعف وقلّة الانتاجية. فتركيبتها وقراراتها محكومة بالتوافق. وتؤدي تناقضات أطرافها الى إحداث شلل في دورها وتهديد لوجودها.
ويكشف هذا الوضع مدى عمق الأزمة، وعدم اقتصارها على هذا الموقع أو ذاك بل تنبع أساساً من ما بلغه نظام التحاصص الطائفي والمذهبي من إهتراء، وما يستولده من انقسامات عامودية حادة، تحدث شللاً وعجزاً على صعيد السلطة، وتوترات وقلقاً في المجتمع، وتراكماً لأزمات ومشكلات متفاقمة ترتبط بمصالح الوطن وبمعيشة الشعب الاجتماعية، وبخاصة ذوي العمل المأجور والشرائح المفقرة والمحدودة الدخل.
وتكمن المشكلة الأساسية، في دور الطبقة السلطوية المسؤولة عن ادارة شؤون البلاد. فبدلاً من قيامها بدورها الطبيعي في المعالجة وإيجاد الحلول، نراها تدير ظهرها لقضايا الناس وشؤونهم الحياتية، ولا تكترث جدياً للموجبات التي تمليها التحديات والأخطار التي تهدد الوطن وأمنه، في ظل حريق مشتعل في جوار لبنان، يستهدف منطقتنا العربية وتفتيتها، ولبنان لا ينفصل عنها، خصوصاً مع خطر الداعشيين وارهابهم الوحشي على اختلاف مسمياتهم. فخلافات الأطراف السلطوية تشمل كل شيء، ويعمل كل طرف مايراه مناسباً له، وليس للبنان. سواء حيال قضية ام موقع أو موقف سياسي. ولا يتفقون إلا في مواجهة قضايا الشعب الاجتماعية، ولتطويق القوى النقابية المستقلة التي دافعت بصلابة عن حقوق الفئات والقطاعات الشعبية، التي تمثل مصالحها بجدارة، ولا تساوم عليها. مثل هيئة التنسيق النقابية وسلسلة الرتب والرواتب، ورفض أية رسوم وضرائب جديدة على الشعب، وغيرها.
وقد كان توحّد موقف أحزاب السلطة ضد النهج النقابي المستقل الذي مثلّه حنا غريب ورفاقه وزملاؤه، دليلاً واضحاً على ان غرضهم هو مصادرة استقلالية العمل النقابي، وافترائهم على الحقوق والمطالب الشعبية والعمالية المشروعة، وعلى الأخص على مستوى رابطة التعليم الثانوي وكذلك الأساسي. وهذا يكشف في الوقت نفسه انحيازهم الكامل لمصلحة أرباب المال والاحتكار، ومضاعفة أرباحهم وثرواتهم على حساب إفقار وتجويع الأكثرية الساحقة من شعبنا. كما يُظهر ان خلافاتهم وتناقضاتهم في الشأن اللبناني، يطغى فيها التنافس على السلطة ومواقع النفوذ فيها.
ويندرج في السياق نفسه، ما يجري من تناقض وانقسام في الموقف من انتخاب رئيس للجمهورية، وقيام المجلس النيابي بدوره في عملية الانتخاب. هذا علماً ان الاطراف السلطوية تنتظر ما يستجدّ في الصراع الجاري في المنطقة من نتائج واتفاقات او تسويات، لتقوم في ضوئها بانتخاب الرئيس. وحتى الوصول الى ذلك، تستمر التجاذبات وتقطيع الوقت، وحالة الشلل وتفاقم المشكلات. فتكتل 14 آذار مثلاً، يرفض سلفاً اقتراحات الجنرال ميشال عون بشأن انتخاب الرئيس، وبرز ذلك في تصريح للسنيورة رئيس تيار المستقبل، جاء فيه ان لا حظوظ لعون في الرئاسة. هذا مع الاشارة هنا الى ان هذه الاقتراحات ينبثق معظمها من المعايير الطائفية نفسها.
لذلك فرغم تكاثر التصريحات ومظاهر الاهتمام بشأن الرئاسة وأهمية موقعها، إلا انها لا تشكل بذاتها عامل انقاذ يخرج لبنان من مأزقه وأزماته. فقد كان رئيس الجمهورية في قصر بعبدا في ظل بنية هذا النظام وطبقته السلطوية، ولم تكن اوضاع الناس والبلاد بخير. وكذلك الذين توالوا على الرئاسة قبله. فالانقسامات استمرت والمشكلات تتفاقم. والوجه الآخر للمأزق، هو في التناقض البنيوي الذي يكمن في صلب موقع الرئاسة نفسه. فمن جهة هو ضروري وطبيعي لاستكمال بنية الدولة وآليات مؤسساتها وعملها، وهو من جهة ثانية موقع "مستملك" لطائفة معينة، كغيره من الرئاسات الأخرى. والاشكاليات والتعقيدات التي ترتبط بكل من هذه المواقع الاساسية، هي بين الوظيفة الرئاسية ودورها العام، وبين طابعها الطائفي. وفوق ذلك، وارتباطاً بطبيعة النظام الطائفي ومعايير الميثاقية والتوافقية المعتمدة في السلطة، تجري ضغوط وتُعتمد مواصفات لا تنطبق إلا على رئيس توافقي. وهذا يعني عملياً، الإتيان برئيس لإدارة الازمة. في حين ان اوضاع البلاد الاستثنائية وطنياً وشعبياً، تحتاج الى اعتماد نهج تغييري يرسي أسساً جديدة لبناء لبنان الوطن السيد، ودولة المواطنة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية الجامعة للبنانيين، والقادرة على حماية لبنان ضد أي عدوان او ضغوط واخطار تهدده.
وهذا الهدف والدور، لا يستطيع رئيس بمفرده ان يحققه، خصوصاً في ظل طغيان قوى سلطوية تتمسك بالنظام الطائفي تمسكاً بزعامتها على جمهور طوائفها، وتتقاسم السلطة فيما بينها. فالهدف التغييري، يستلزم استنهاض الدور الشعبي وانخراط أوسع القوى والشخصيات التي تلتقي على تحقيقه. لذلك فإن انتخاب رئيس للجمهورية بمعايير النظام الطائفي وقاعدته التوافقية، لا يحمل معه غير البقاء في دوامة الازمات وتفاقمها، لأن التوافق المذكور هو على شخص الرئيس، في حين ان الخروج من الازمات ومن حالة الاهتراء يستدعي توافقاً على نهج وبرنامج يحقق التغيير الجدي، الذي بدونه لا يتغير الوضع القائم المأزوم.
ومن نافل القول ان اللجوء لاستخدام الطائفية وعصبياتها والانقسامات التي تفرزها، وسيلة للوصول الى هذا الموقع أو ذاك، يزيد من غرق الوضع اللبناني في مستنقع الطائفية، ويعرضه للمزيد من الاخطار التي تهدد السلم الاهلي ووحدة الوطن.