مع الحقيقة: سمير دياب الفراغ الكبير
سنة فراغ، والعداد شغال، يطوي الأيام، على مبادرات انتخاب الرئيس من الشعب أو نقيضه بنصف المجلس النيابي زائداً واحداً لأطراف السلطة الآذارية، وعلى نأي حكومي عن كل المشاكل والقضايا الداخلية، وعلى إرتفاع منسوب التوتر العسكري والأمني في البقاع إثر معركة القلمون السورية استعداداً لمواجهة الإرهاب النصراوي والداعشي في جرود عرسال، وبلدة عرسال.
أرباب جمهورية الوقت الضائع، ضائعون، متمترسون وراء طوائفهم، ومحاورهم السياسية المتقاتلة في طول المنطقة وعرضها، ونار حروبها تأكل البشر والحجر.
في حمأة الخطابات والخطابات المضادة لأهل السلطة، يبقى عداد جلسات الحوار بين حزب الله والمستقبل شغالاً أيضاً، تسبقها مواقف متوترة بين الطرفين ويليها مواقف متوترة أيضاً، والنتيجة بيان عن أهمية استمرار جلسات الحوار لوقف التشنج والاحتقان، وكأن التشنج والاحتقان الطائفي والمذهبي من فعل طرف آخر لا علاقة له بهما.
سنة فراغ رئاسي، وسنة تعطيل نيابي، وحكومة تقطع الوقت في نقاش موازنة لن تر النور، كما الموازنات السابقة، وتعيينات عسكرية وأمنية مستحقة لكنها مرتبطة بحسابات كل طرف طائفي، وكذلك مرتبطة بحسابات معركة رئاسة الجمهورية، ومعركة رئاسة الجمهورية مرتبطة بمعركة القلمون، ومعركة القلمون مرتبطة بالأزمة السورية، وهكذا وصولاً إلى العراق ثم اليمن.
سنة فراغ، لم يشعر المواطن باختلاف يذكر، فمأساته بوجود رئيس أو عدمه هي ذاتها، بوجود مجلس نيابي ممدد له أو غير ممدد، لا فرق ولو بسيط يؤثر على مسار حياته ومصير أولاده.
الملفات الاقتصادية والاجتماعية والحياتية الساخنة باتت أكثر حماوة واحتراقاً، وإذا عدّدنا اليسير منها، فإننا نشير الى مسألة سلسلة الرتب والرواتب، وحقوق العمال والمياومين والأجراء، وحقوق المستأجرين، وحقوق الشباب والنساء والأطفال، وقضية اللاجئين .. أم أن الكلام عن هذه الملفات من المحرمات بفعل أن الاهتمام اليوم ينصب على القضية الأمنية على أهميتها، إلا أن الأمن الاقتصادي والاجتماعي ضروريان لأنهما بالتأكيد يوفران مناخاً أفضل لتعزيز الوحدة الوطنية في مواجهة المخاطر الحقيقية المحدقة بالوطن.
صحيح أنه مرت سنة على الفراغ الرئاسي، لكن في الحقيقة مر ربع قرن على معاناة الشعب اللبناني من سياسة أرباب الطائف، ومحاصصات أهل الطائف، وفساد سلطة الطائف، وهريان المؤسسات من القوى المسيطرة بعد إتفاق الطائف. ورغم ذلك أعطى الشعب اللبناني ومقاومته رغم كل المآسي الداخلية كل ما يملك لتحرير الأرض من العدو الإسرائيلي وعملائه، والذي احتفل في 25 أيار الحالي بالعيد الـ 15 للتحرير. هذا الشعب الصامد المقاوم الصابر إنتظر أن يتحرر سياسيا وإجتماعيا بعد عظمة التحرير، أو أقله كان يأمل أن يأتي نظاماً انتخابياً ديمقراطياً، أو أن يكون له حق المشاركة في صناعة الإصلاح والتغيير الديمقراطي، كما ساهم في التحرير، لكن إنتظاره طال، وأحلامه بدأت بالتلاشي مع كل قانون إنتخابي ونتائجه، ومع كل حكومة وبياناتها الشهيرة . حكومة "وطنية" تسلم حكومة "وحدة وطنية"، والثانية تسلم حكومة "مصالحة وطنية".. والوطنية هنا، ضرورة لماكياج القوى السياسية الطائفية المسيطرة، التي ترعى مصالحها وتحميها بالتبعية السياسية والاقتصادية والأمنية للخارج، وبسلاح المحاصصات الطائفية في الداخل. والطائفية منذ سنوات أنجبت المذهبية السياسية، كنوافذ حيوية للمشروع الإستعماري الحديث في المنطقة، الذي نشهد أبشع فصوله بعد الاحتلال الأميركي للعراق، المستمر اليوم بأدواته الأصولية الإرهابية.
لقد جرفت الحكومات المتعاقبة الوطن الى قاع الإزمات الوطنية، وأقام أطرافها الحدود الطائفية والمذهبية الفاصلة، ولتقسيمات مناطقية واضحة غير معلنة، وبنوا المتاريس الإحترابية لولادة الموت المؤجل، في وطن لا يشبه الأوطان، ولا يشبه حلم شهداء التحرير، ولا أحلام أجيال التغيير الديمقراطي.
ربع قرن من الانتظار بعد الطائف، والنفق المظلم يطول، أجيال وراء أجيال ناضلت وعرقت من أجل حق العيش بكرامة والمساواة والعدالة الاجتماعية والحياة. أجيال وراء أجيال هاجرت بحثاً عن ملجأ ومأكل وملبس وطبابة وتعليم.. وأجيال صمدت وتحملت ظلم وقساوة وإستغلال العائلات الاقطاعية والبرجوازية الطائفية الحديثة.. وأجيال قاومت الاستعمار والانتداب والمحتل الصهيوني ليبقى الوطن حراً ومستقلاً. لا من أجل أن يبقى الإنسان عبداً أو تابعاً أو مطية لنظام سياسي أو لطوائف أو لحيتان المال الذين أكلوا خيرات الوطن، وسرقوا تعب الناس، وحاصروا مكتسبات الفقراء، وطيفوا انتصارات الشعب.
قوس قزح التمديد والتمدد الطائفي والمذهبي ، يجب أن لا يؤجل في حال من الأحوال الاستمرار في معركة الإصلاح والتغيير، وفي مواجهة نظام الفراغ الساعي لتفريغ الساحة الوطنية من كل نشاط سياسي ديمقراطي، أو نقابي أو اجتماعي مطلبي. والنضال من أجل قانون انتخابي ديمقراطي، أو إلغاء الطائفية وإحداث قانون مدني للأحوال الشخصية، أو بتحديث القوانين المتعلقة بحقوق المرأة وحمايتها، أو حقوق الشباب، أو في إقرار سلسلة الرتب والرواتب وتعديل قانون الإيجارات أو تأمين سلامة الغذاء.. كلها قضايا تعزز وحدة الفئات الشعبية، وتعزز الوحدة الوطنية كسلاح فعال في مواجهة المخاطر المحدقة بالوطن من العدو الصهيوني أو من دواعش الإرهاب. والسلاح الأقوى في المعادلة هو "الوطنية" الحقيقية وليس الطائفية.
الجمهورية الضائعة، ستبقى تائهة عن قضايا شعبها، وستبقى مأزومة ومعرقلة لمسيرة تعزيز السلم الأهلي، ومتنكرة لنضال شعبنا ومقاومته وتضحياته. هذا النظام لا يملك سوى ما قدمه ويقدمه من أزمات وطنية بحيث باتت عملية الإصلاح والتغيير حاجة ديمقراطية شعبية ميدانية ملّحة أكثر منها حاجة نظرية للزوم القافية.
وهذا، برسم كل من يريد التغيير الديمقراطي. إنه الفراغ الكبير.