شؤون محلية - فقراء العاصمة يستغيثون: أنقذوا الدالية - عطالله السليم
درجت العادة أنّ كل سائح يأتي إلى لبنان عليه حكماً أن يزور صخرة الروشة لما لها من أهمية تراثية وجمالية. ولكنّ الدليلين السياحيين قلمّا يخبرون السيّاح الآتين إلى وطن يعتقدون أن بحره متاح للجميع، بأنّ الأملاك البحرية العامة من العاقورة إلى الناقورة باتت تحت قبضة حيتان المال. هؤلاء الحيتان أجهزوا أخيراً وبدعمٍ سياسي واضح من الحكومات المتعاقبة والسلطات المحلية (بلدية بيروت) على منطقة الدالية تمهيداً لإقامة مشروع استثماري ضخم على غرار الـ zautanay bay.
السلطة في مواجهة الفقراء
في الدالية، يعيش عشرات العائلات الذين يعتاشون من صيد السمك وبيعه. تروي سميرة عيتاني، البالغة من العمر 52 عاماً والتي تعيش في الدالية منذ ولادتها، كيف أقدمت قوى الأمن الداخلي مدعومةً من قوى مكافحة الشغب على اقتحام المكان والعبث بكل الممتلكات الشخصية للصيادين وعائلاتهم فجر يوم السبت في الثاني من أيّار. "فجأة نحنا ونايمين ببيوتنا ما منلاقي إلا شي 250 عنصر من مكافحة الشغب فاتوا ع بيوتنا الساعة 5:30 الفجر"، تروي سميرة الحكاية. أخبرتا سميرة أن حجتهم كانت بإزالة مخالفتي بناء قرب الشاطئ إلا أنها سمعت أحد الضبّاط يأمر عناصره بأن "يكملوّا ع الباقي". قال ذاك الضابط لعناصره: جرفوا كل الأرض، وحفور الأرض وراهن! تضيف سميرة بأنّ مفرزة الشواطئ أتت لتقصي أحوالهم بعد العاصفة يوهان والتي ضربت لبنان مطلع العام الحالي، ولكنهم لم يستلموا أياً من التعويضات التي وعدوا بها. تستغرب سميرة كيفية التعاطي مع العائلات الـ 13 التي تسكن هذه المنطقة منذ عشرات السنين، وأخبرتنا بأنّه ومنذ حوالي ثلاثة أشهر، استلمت بعض العائلات – وهي بأغلبها عائلات تسكن حديثاً في الدالية- مبلغ 3 مليون دولار لكل عائلة وعندما استفسرت عن سبب استثنائهم من التعويضات، قالوا لها: أنتم في عداد الدفعة الثانية. تنفي سميرة ما سمعته من رئيس بلدية بيروت، بلال حمد، خلال إحدى المقابلات التلفزيونية، أنّ أهالي منطقة الدالية قد استلموا كافة تعويضاتهم. تخبرنا سميرة بإسهاب كيف أتت مجموعة من الأشخاص في العام الماضي وأخذوا صوراً فوتوغرافية للمكان وعاينوا مساحته ليتبين لاحقاً أنهم من الفريق الاستشاري المكلّف تنفيذ مشروع "الصخرة واليمامة"، حيث ستتحول هذه المنطقة إلى منتجع سياحي ضخم. سميرة والتي بدت لنا أنها شخصية قوية ومؤثرة جداً في محيطها ناشدت جميع المسؤولين السياسيين بأن يحافظوا على إرث هذا المكان ويمنعوا تحويله إلى منفعة خاصة.
الإطار القانوني
قامت النداء بمقابلة أفراد من "الحملة الأهلية للحفاظ على الدالية" حيث شرحوا لنا الواقع القانوني لهذه المنطقة. تشير الأبحاث الصادرة عن الحملة بأنّ الدالية- كسائر الأراضي الواقعة على امتداد ساحل بيروت الغربي- كانت بحماية السلطنة العثمانية حيث الملكية تعود إلى بعض العائلات التي كانت لديها مصالح اقتصادية مباشرة مع العثمانيين. وعقب انهيار السلطة العثمانية، انتقلت أملاك الدالية إلى عهدة بعض الأسر البيروتية الرئيسة وكان هذا إبان مرحلة الانتداب الفرنسي على لبنان.
وتشير سجلات الملكية العقارية الرسمية إلى أن هذه الأملاك كانت تعود منذ العشرينيات وحتى العام 1995، إلى عدد من المالكين المنتمين جميعاً إلى ما يسمّى بـ"عائلات بيروت القديمة" لكن حقوق الملكية هذه لم تتناقض مع موقع الدالية كمشاعٍ جماعي في المدينة. وعلى مدى عقود، حمت قوانين البناء والتنظيم المديني واجهةَ بيروت البحرية. فمن جهة، يعرّف القرار رقم 144 الصادر في العام 1925 "الأملاك العمومية"، ويصنّف البحر كمجال بحري عام غير قابل للمصادرة أو الإستملاك. ومن جهة أخرى، يحظر المخطّط العام لمدينة بيروت الصادر في العام 1995 كافة عمليات البناء في "المنطقة العاشرة " حيث تقع الدالية.
لكن منذ منتصف الستينيات، تسبّبت ضغوط مستثمري العقارات والمالكين بصدور عدد من المراسيم والقوانين التي أبطلت التشريعات الأوّلية التي حظّرت البناء في المنطقة. وسمحت هذه التعديلات القانونية بتزايد معاملات البناء الكثيف، ممهّدة بالتالي لخصخصة مناطق لطالما استُخدمت كمساحات عامة. فعلى سبيل المثال، أتاح المرسوم 4711/ 1966 الشروع بعمليات البناء في أجزاء من الدالية، سامحاً بنسبة 15% للاستثمار السطحي و20% للاستثمار العام.
في البداية، لم تتأثر الدالية بموجة استيلاء القطاع الخاص التدريجية على ساحل بيروت التي بدأت في منتصف ستينيات القرن الماضي. لكن استقصاء السّجلات العقارية الحالية يكشف وجود عملية مشبوهة لشراء الأراضي. ففي العام 1995، تمكّنت ثلاث شركات عقارية - تعود ملكيتها جميعاً إلى المستثمر نفسه - من شراء أسهم العقارات هذه، ودمجها في ملكية خاصة واحدة، وتوسيعها لتشمل ما كان وقتذاك المشاع الجماعي في المدينة. وجرى تظهير عملية الاستيلاء هذه على أنها أمر واقع، من أجل التعتيم على الممارسات الجَمعية التاريخية في الدالية، وتقديمها على أنها احتلال غير قانوني لممتلكات خاصّة. وبالتزامن مع عملية شراء الأرض، صدر القانون 402/ 1995 ليمكّن مالكي العقارات التي تزيد مساحتها عن عشرين ألف متر مربّع، من مضاعفة إجمالي المساحة القابلة للاستثمار بمرّتين، ومضاعفة استغلال السطح بأربع مرات في حال بناء فندق فوق العقار. وبالإضافة إلى ذلك، صدر المرسوم 7464/ 1995 ليرفع الحظر عن الاستثمار في المجال البحري العام في المنطقة العاشرة.
وفي نيسان 2014، كان التعديل الأخير في قوانين البناء وتقسيم المناطق التي تحكم المنطقة العاشرة، والذي مدّد مفعول القانون 402/ 1995 لمدّة 19 عاماً. بناءً على ما تقدّم، يظهر التعديل الوزاري الأخير نية الطبقة السياسية بحماية المستثمرين الاساسيين وتأمين الارضية اللازمة لانطلاق مشروعهم. يترافق هذا المسار التشريعي مع ما قامت به بلدية بيروت العام الماضي حيث عمدت إلى تسييج المنطقة الممتدة عليها الدالية من جهة الكورنيش البحري وقامت بتنصيب برج مراقبة لحماية المكان!
مشاهدات من المكان
شباك الصيادين مرمية على الأرض، الشخاتير والزوارق البحرية مدمرّة بالكامل، عدّة الصيد مبعثرة، الدراجات النارية محطمّة، وألواح الخشب التي كانت تؤمّن سقفاً للعائلات الفقيرة باتت على الأرض! يروي علي محمد عيتاني (30 عاماً) بحسرة كيف تحوّل المقهى الذي أعاد ترميمه إلى حطام أصبح الآن في البحر. يأخذني علي إلى النقطة الأخيرة في الدالية حيث يريني برّاد المشروبات وهو يعوم في البحر.. لم يكن يتوقع أن البحر الذي عشقه سيلقى فيه جنى عمره. ولكن حسرة علي تقابلها بعض الحماسة عندما يأتيه اتصال هاتفي وهو جالس بجانبي يخبره فيه المتصل بأن عليهم تشكيل وفد لمفاوضة ممثلين عن آل الحريري في بيت الوسط، لعلّ الموضوع يلقى الآذان الصاغية. انضمّ إلينا أربعة أشخاص ممن يسكنون أيضاً في الدالية. أحدهم كان يقوم بقلي السمك ولكن لاحظت أنه يستعمل الفحم. وعند سؤاله لماذا الفحم وخاصةً أنه يستغرق وقتاً أطول لكي يصبح السمك معداً للأكل؟ أجابني: حتى قوارير الغاز لم تسلم من التدمير، لم يعد لدينا في بيوتنا مكان لكي نقوم بقلي السمك فكان خياري بالفحم بديلاً.
الخاتمة
يقول علي محمود عيتاني، وهو في العقد الخامس من العمر: "أنا أصغر في أسرتي .. ولادي خلقو هون وولاد ولادي خلقو هون". تختصر كلمات علي تمسكه بأرضه وحقه في السكن في المكان الذي ترعرع فيه. إذاً، قضية الدالية وما تحمله من تعدّي على الحق العام يجب أن تكون قضية أساسية في حسابات القوى التقدمية واليسارية والنقابية لا أن تنحصر بجهود فردية من قبل "الحملة الأهلية للحفاظ على الدالية"، والتي تشكلت من ناشطين مستقلين وجمعيات أهلية عام 2013.
للتعرف أكثر على نشاطات الحملة وللوقوف على حيثيات القضية، يرجى زيارة موقعها الالكتروني: