كلمة: موريس نهرا النصر على الفاشية عيد للإنسانية وأزمات النظام الرأسمالي تستولدها
عيد الإنتصار على الفاشية ليس مجرّد ذكرى لحدث مرّ في التاريخ منذ 70 عاماً. فأهميته الكبرى ترتبط بما شكلته الفاشية من أخطار وتهديد للبشرية جمعاء. وبالأثمان الهائلة التي دفعتها الشعوب وخصوصاً بعض البلدان، دفاعاً عن نفسها وبلدانها، وللانتصار في سحق الهتلرية.
لقد شكلت الفاشية بمنطلقاتها العنصرية وممارساتها الوحشية أكبر تهديد للحضارة الانسانية، مستخدمة كل ما لديها من أشكال وأساليب إجرامية وقوة تدميرية، للسيطرة الكلية على الشعوب الأخرى (أعراق وأجناس أدنى) وألحقت بالبشرية أكبر الخسائر في تاريخها. ولذلك فإن هذا الانتصار هو عيد يخص كل شعوب العالم، وإن كان للجيش الأحمر وشعوب الاتحاد السوفياتي السابق، الدور الأساس والأهم في البطولة والتضحية التي بلغت 26 مليون ضحية، اي نصف العدد العام لضحايا هذه الحرب.
ومع ان احتفالات النصر تحمل معها التقدير والتكريم للضحايا والبطولات، خصوصاً في روسيا والاتحاد السوفياتي السابق، وشعوب أوروبية أخرى، إلا أنها تحمل أيضاً معاني أخرى تتعلق بلفت انتباه العالم لخطر بروز ظاهرات فاشية جديدة في عنصريتها وفكرها، وفي أساليب ممارستها وعدوانيتها ضد الآخر وإلغائه. فالتحول الذي أحدثه سحق الهتلرية، أراح الشعوب وأتاح لها الدخول في مرحلة جديدة تتيح لها ظروفاً افضل لتحقيق طموحاتها في التحرر والتقدم والحصول على استقلال وسيادة أوطانها. وأرسى أسساً ومبادئ للعلاقات الدولية تحترم حق الشعوب في تقرير مصيرها واختيار طريق تطورها.
لكن هزيمة الفاشية لا تعني موتها أبدياً. فهي ليست شخصاً أو زعيماً لتنتهي بانتهائه أو انتحاره كما فعل هتلر. وليست بالأساس من صنع زعيم فرد ... فتكوّن شروطها هو الذي يستولد زعيماً يعتمد نهجاً يعبر عنها، ووفقاً لما تستدعيه أسبابها. وهي ليست حكراً على دولة بعينها، بل وليدة النظام الرأسمالي الذي يصل في أزمته، وفي ظل تطور متفاوت بين دوله في قدراتها الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية، الى العدوان وشنّ الحروب، حتى مع الدول ذات الطبيعة الرأسمالية نفسها، ومع البلدان الذي يستهدفها العدوان لإعادة اقتسام العالم والسيطرة على ثروات الشعوب وأسواقها.
ألم تأتي ظاهرة الفاشية والنازية ونموها على أثر الأزمة الرأسمالية عام 1929 وتداعياتها في ثلاثينيات القرن الماضي، وفي ظل التطور المتفاوت للدول الرأسمالية؟
لقد نتج عن هذا التفاوت والأزمات حربان عالميتان هما الأكثر إيلاماً في تاريخ البشرية، الأولى انتهت 1919، والثانية عام 1945 بهزيمة الفاشية.
لقد كانت الحرب مظهراً كاشفاً لمطامع الاحتكارات الرأسمالية التي تستخدم سلطات دولها وأدواتها وقدراتها، لخدمة مصالحها الطبقية في استغلال شعوبها، وفي فرض السيطرة على الشعوب الأخرى ونهب ثرواتها بقوة العدوان والإجرام والدمار. وتزداد هذه العدوانية، ترابطاً مع أزمات نظامها الرأسمالي الاحتكاري والحاجة الى انقاذه. ولولا امتلاك قدرات تدميرية هائلة ومتماثلة لدى عدة دول متنافسة او متناقضة، لوقعت الحرب العالمية الثالثة الأشد فتكاً وتدميراً للبشرية. لذلك نرى اليوم ان التنافس والصراع على المصالح والسيطرة على الثروات والمناطق الأهم في العالم، وخصوصاً في منطقتنا العربية والشرق أوسطية، يتخذ شكلاً جديداً. يمكن القول انه حرب بالواسطة، أي بإثارة نزاعات وحروب ترتكز على قوى وأدوات محلية، ترمي في مخططاتهاالى تحقيق اهداف السيطرة الأميركية نفسها، والنهب المديد لثرواتنا العربية وأسواقنا.
فبذلك تتجنب الولايات المتحدة الأميركية الحروب المباشرة، بعد فشلها في أفغانستان والعراق، بسبب الكلفة البشرية والمالية العالية التي لا تستطيع تحملها أمام الشعب الأميركي. وبذلك أيضاً تحاول تجنب ظهور طابعها العدواني ومظاهره الفاشية، لتتمظهر في القوى والأدوات التي تستخدمها أو تستفيد من دورها.
فمع انفجار الأزمة في قلعة الرأسمالية أميركا، عام 1908، وما تركته من ارتدادات وانعكاسات بما في ذلك في العديد من البلدان الأوروبية، نشهد تنامي ظاهرة العنصرية في هذه البلدان، خصوصاً حيال الوافدين من ذوي اللون الأسمر والأسود، الذين يأتون للعمل في مجالات يتجنب العامل الأوروبي العمل فيها.
ويترافق ذلك مع تشديد دور العنصرية الصهيونية التي أنشأت كيانها الإسرائيلي على أساس ديني عنصري، وبالأساليب الفاشية من قتل ومذابح ومجازر وتشريد للشعب الفلسطيني، وتركيزها على تصفية قضيته وحقوقه التاريخية، إضافة الى دورها العدواني التوسعي ضد شعوبنا وبلداننا العربية.
ولا ينفصل عن الأساليب الفاشية والاجرام الوحشي، ذلك الدور الذي قامت الدوائر الأميركية بالأساس مع أدواتها، بالإعداد له منذ سنين طويلة، والذي يرتبط بتنظيم القاعدة والداعشية وأخواتها، تدريباً وتمويلاً وتسليحاً، لجعل منطقتنا وبلداننا العربية مسرحاً لتيارات وتنظيمات تمارس أبشع أنواع الإجرام والإرهاب باسم الدين والمذهب أو الأثنية والقبلية، بغرض تحويل مسار نضال شعوبنا الوطني والتحرري، الى حروب تتخذ طابعاً محلياً ومتخلفاً، تنتمي في أساليبها وإلغائها للآخر، إلى آرومة الفاشية وممارساتها، وتخدم في دورها هذا مخطط تفتيت بلدان المنطقة وإلحاق أوسع دمار بها.
ألم ترفق هذه النزاعات والحروب بتخويف دول المنطقة من بعضها لتصبح سوقاً مفتوحة للسلاح وانفاق مئات مليارات الدولارات لشرائه، لتخفيف أزمة الرأسمالية وانعاش المجمع العسكري وصناعة السلاح؟
ألا تستنزف هذه الحروب طاقات البلدان العربية، وترمي الى سيطرة مديدة على المنطقة وثرواتها بما يعالج أزمة الرأسمالية؟
وفوق ذلك، ألا يحتاج هذا الدمار الهائل للمدن والبنى التحتية، عندما تنتهي هذه الحروب، الى اعادة اعمار، تكون قوى رأس المال المسيطر الذي خطط للتدمير والتسليح، هو نفسه الذي يستثمر في ما يسمى إعادة الاعمار؟
في ضوء ذلك يمكننا القول ان الفاشية وإن هُزمت عام 1945، إلا ان أسبابها الكامنة في النظام الرأسمالي الذي يستولدها، لم تنتهٍ. وان تسليط الضوء على الفاشية وأخطارها، لا يقتصر على الماضي بل يتعلق بالحاضر والمستقبل.