ضيف العدد: نضال عبد العال النكبة... تداعيات متأخرة!
لم ينفك الجيل الأول يردد مقولة أن الكيان الصهيوني هو "إسفين" في قلب الوطن العربي، إسفين لشق قلبها وتهديد وجودها وهويتها، حاضراً ومستقبلاً. والجيل الحالي يعيد تكرار ذات المقولة، ولا يزال الإسفين مغروساً في عمق الأمة، ينزف من جسدها وروحها من ثروتها وإرادتها، ومنهم من تهكم بسخرية إلى حد البكاء، بوصف قيام دولة العدوان أنها "خازوق دق ولم يقلع" مع ذلك فأن اداؤنا لم يتجاوز الفهم البسيط والسطحي لأبعاد ومعاني هذه "الإسفين" وظل تعاملنا مع الأمر كرد فعل مباشر مع العوارض ولم يصل إلى الأسباب العميقة لهذه النتائج، التي أفصحت عن مضمونها باحتلال فلسطين وطرد أهلها.
جل ما توقعناه من النكبة، أن لا يمضي على وجودها 67 عاماً، وهي في حالة تجدد، رغم المقاومة والتمسك بالحق، إلا أنها استمرت في اختراق الذات القومية عبر توطيد وجود هذا الكيان الغاصب بشهية عدوانية لم تتوقف حتى اللحظة. مثلما فعل في حزيران 1967 حين شن حرباً استباقية كما يسميها، واحتل أجزاءً أخرى، بقية الأراضي الفلسطينية وأجزاء من مصر وسوريا، فتؤسس للتكوين النفسي للتسوية عبر مقولة "إزالة آثار العدوان" فكلما بانت علائم القوة لديه بدت على حالنا علامات التقهقر والضعف والتفكك. وبرز استعصاء جديد أمام احتلال أراضي جديدة لأنظمة طابعها وطني وتقدس الفكرة العسكرية لكنها هُزمت أمام العدو، مما برز إشكالية جديدة في فهم واستيعاب جدلية التحرير والتحرر، أي الوطني والاجتماعي، أظهرت لاحقاً مدى الترابط بين التقدم والتحرر، والتي تكاد أن تكون معركة واحدة، مضمونها مركباً جدلياً بين الأسباب والنتائج، فكلما كنا أقل تحرراً، كنا أقل سيطرة على ثرواتنا ومقدراتنا وقرارنا في تقرير مصيرنا، وأيضاً حين نكون أقل تقدما فإننا لن نجسر الفجوة بيننا وبينه، مما يجعل الهزيمة أكثر احتمالاً.
إن كان المعنى محصوراً "بالإسفين" بأبعاده ودلالاته وبالتداعيات البسيطة والمباشرة، لعملية التفكك، وما يعنيه من تراجع مكانة القضية الفلسطينية في السياسة العربية وإن حضرت في الوجدان العربي، وحضرت القطرية كعامل متصادم مع القومية، مما جعلت من مركزية التضامن العربي بين الأقطار ذاتها مسألة لا تصل إلى الحدود الدنيا، وفقاً لمعيار الأمن القومي، والتقهقر بما يعنيه هبوطاً بسقف الطموحات والأهداف والتراجع عنها مرحلة بعد أخرى، وفقاً لنموذج لا صلح لا اعتراف لا تفاوض، وصولاً إلى "كامب ديفيد" ثم "أسلو" و"وادي عربة". وأما الهزائم فقد توالت منذ حرب 1948 وصولاً إلى اليوم، برغم أننا لم نكن مجرد متفرجين، فقد بذلنا جهداً مضنياً في مواجهة النكبة، قلنا وفعلنا وواجهنا التحديات التي أفرزتها، فانبرينا إلى المقاومة سبيلاً للتحرير.
صار اليوم المغزى واقعاً فجاً، مراً ووقحاً ومفتوحاً على كل الاحتمالات، ونعترف أننا ما كنا لنتصوره بهذه الصورة وبهذه التفاصيل ومهما حاولنا، فأن ما نعيشه اليوم لم يكن ممكن التوقع، أو كما يقول المفكر الجزائري الأصل محمد اركون "اللامفكر فيه"، وإذا كان يوجد من رسم وقرر، لربما هو أيضاً مصدوم ولم يتوقع حصول ما يحصل بتفاصيله المرعبة.
سينبري منا من يقول ولفظاعة المشهد الحالي ولفداحة الدمار وحجم المسؤولية، لم يعطى عقل بشري هذه القدرة من الخيال لاستيعاب ما يجري اليوم من وقائع، وقد يكون ذلك صحيحاً، إلا أن هناك من أمسك بطرف الخيط على الأقل بالمنهج وبالاستدلال العلمي لمآل الأمور إذا ما استمرت على ذات المنوال، لكننا أقمنا الحد على صاحب كل عقل ومنهم ياسين الحافظ، الذي قال لنا أن النكبة هي إحدى التداعيات العميقة للتأخر، وإن الهزيمة في المغزى هي "التأخر" الذي يستوطن في أدمغتنا وكل جوانب حياتنا، وهي مهدت الأرض كي يأتي ذاك الغريب ويستوطن أرضنا.
ربما لم يتوقع أحد ومنهم ياسين الحافظ، أن التفكك سيصل إلى هذا الحد من انهيار كل أنواع الروابط، وإلى مستوى الاندثار، والتي بدت في يوم من الأيام أنها باتت راسخة وحية تنمو باضطراد، مثل رابطة الوطنية إلى القومية وحتى الدينية، وتفرض حضورها بلا عناء في اللغة والثقافة والمصالح المشتركة والتحديات المشتركة والتاريخ المشترك والتطلعات المشتركة، لنصل اليوم أن سقف التضامن المرتجى هو العائلي أو العشائري أو القبلي، حتى الدين تعددت مرجعياته وشرعياته وفتاويه وصار يفتك بالبلاد والعباد كالوباء المستشري. ومن حسب أن نصبح من التقهقر إلى درجة يصبح التهديد الوجودي (الكيان الصهيوني) جزءاً طبيعياً من أحلافاً يخوض حربه بها وعليها في الآن ذاته، وينتصر بها وفيها.
إن محنة التقدم هو المعضلة الجوهرية للمغزى، وأن التداعيات المركبة للنكبة، بإعتبارها محطة في مسار تقدم الخصم، وتأخرنا، منذ أن وقع الكواكبي وجيله تحت تأثير الصدمة من مشهد المدى الذي وصله تقدم الغرب، ولم يلقوا السؤال جزافاً: "لماذا تقدموا وتأخرنا؟"، ولم يلتقطه الفاعلون، ثم استمر المسار قدماً يعمق الفجوة بيننا وبينهم إلى أن وصلنا لسايكس- بيكو، ثم كانت النكبة "الإسفين" الذي زرع جسماً غريباً مغلفاً بادعاء ديني بغايات استعمارية مضمرة حيناً ومعلنة أحياناً، وبعد هذا المدى الفسيح للصراع ، وما آلت إليه حال العرب، يُعلن بفجاجة عن هدف "الدولة اليهودية" كهوية انشطارية، تودي بواقع المنطقة أقطاراً وكيانات مفتتة، وتدفع بنا بسرعة أكبر على طريق الانحدار وصولاً إلى اليوم حيث الانهيار الشامل. وختاماً إن لم نقلع الإسفين فأنه سيقلعنا.