وتبقى... فلسطين البوصلة د. خالد حداده
لم تغب قضية فلسطين عن بالنا يوماً. يحاولون تغييبها كل يوم. تآمروا عليها وعلى شعبها الذي اقتلعوه من أرضه مقابل سلطة محمية من الاستعمار في الممالك والإمارات والجمهوريات المصطنعة.
وكيف تغيب وإغتصابها، كان عنواناً لسيطرة الاستعمار على ثروات شعوبنا وقضائه على أحلام التنمية والاستقلال والسيادة.
كيف تغيب، وهي كانت على الدوام عنواناً لأحلامنا الجميلة. التي يرتبط فيها التحرير بعالم عربي متقدم ومتحرر.
وكما ارتبط إغتصابها بأبشع صور للسلطات المتآمرة. كان النضال من أجل تحريرها عنواناً لحركة الجماهير العربية وصورتها المشعة. هي الملتفة حول جمال عبد الناصر، لتجسيد أحلامها. هي المحتضنة للمقاومة الفلسطينية في أوج تبلورها. وهي التي فرحت وتظاهرت ورقصت في يوم التحرير في 25 أيار، يوماً توجته المقاومة الشعبية اللبنانية بأوجهها المتتابعة والتي بدأت بـ "جمول"...
والمتآمرون في السنوات السابقة، لم يتغيروا، فهم الرأسمال التابع في بلداننا والمتحالف مع كل أشكال السلطة دون الوطنية، هم الملوك والأمراء والمشايخ والرؤساء اللُعب الطامحون للملك. تآمروا على المقاومة الفلسطينية منذ انطلاقتها وحتى الآن، قمعاً حيناً وإحتضاناً وإغواء، باتجاه تفاحة التفاوض والسلام مع العدو في معظم الأحيان وكما هو الوضع الآن.
وهم انفسهم (أباؤهم وأجدادهم) تآمروا على عبد الناصر وسياسته. هم الذين دعموا اتفاق 17 أيار ونظامه اللبناني وخططوا لمرحلة "السلم" مع العدو الصهيوني، وتآمروا من شرم الشيخ على شعبنا وأطفالنا ونسائنا خلال حرب تموز.. وكانت خيبتهم كبيرة مع صمود شعبنا بجيشه ومقاومته وعوضوا عن هذه الخيبة، هم وحليفهم المضمر العدو الإسرائيلي، وبمساعدة الولايات المتحدة عبر القرار الدولي1701...
هي البوصلة بدون شك، قضية شعبها وحق عودته وحقه في دولته الوطنية المستقلة وعاصمتها القدس ومقاومته بكل أشكالها، تبقى النموذج الذي يجب احتضانه.
* * *
ولأن فلسطين هي البوصلة، يجب التفتيش عن موقعها في مخططات الجميع وبشكل أساسي عن موقعها في المشروع الأميركي الجديد.
من الواضح، ولا تجد الولايات المتحدة الأميركية ضاغطاً لإخفائه، أن خطتها ترتكز على كون سايكس - بيكو الأول، كان ركيزة خلق الكيان الصهيوني والكيانات "العربية" المسهلة له. وبعد ذلك لعب دوره في مواجهة حركة التحرر العربية ورموزها وتياراتها الداعية للتمسك بقضية فلسطين، وتركز التآمر على عبد الناصر أولاً وإبعاد مصر، حاملة البوصلة المفترضة، وبعد ذلك ومعه التآمر على سوريا والمقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية.
إن سايكس - بيكو الأول استنفد مهمته بالمعيار الأميركي وفي إطار المرحلة الجديدة من تطور الرأسمال العالمي. وهذه الكيانات بصورتها الحالية غير قادرة على حماية مصالح الولايات المتحدة وغير قادرة على حماية الكيان الصهيوني بعد أن تعرض بوجوده ومبرره إلى خطر جدي، تمثل بشكل خاص بما أنتجته المقاومة اللبنانية والمقاومة الفلسطينية في غزة وقبلها في انتفاضات الشعب الفلسطيني، في الضفة وغزة وفي الأراضي المحتلة عام 1948.
وكما لجأت الرأسمالية العالمية في فترة تأزمها، في ثلاثينات القرن الماضي إلى الحركات الفاشية، القائمة على أساس عرقي من ألمانيا إلى ايطاليا وتركيا واليابان وسواها. فها هو المشروع الجديد لا يجد بداً من اللجوء في الشرق الأوسط إلى الحركات الإرهابية بلونها الديني والعرقي على السواء..
إن مفكري الرأسمال في الولايات المتحدة أكدو منذ سنوات، على أن استمرار السيطرة الأميركية على النفط والمنطقة وضمان أمن الكيان الصهيوني يرتكز اليوم على خلق الكيانات المذهبية والطائفية المبررة من جهة لهذه السيطرة، وليهودية الكيان الصهيوني من الجهة الأخرى...
وإذا كانت سيطرتها ونفوذها مضمونة لجهة الكيان الصهيوني والحركات الإرهابية "السنية" فإن الإدارة الأميركية ستحاول وعبر التهديد والحصار حيناً وباستعمال "القفاز الحريري" حيناً آخر احتواء الدولة الشيعية وتغيير مسارها المتعارض مع المشروع الأميركي، ومن هذا المنطلق الرهان على التفاوض حول الملف النووي والتباينات الحقيقية داخل إيران، وبشكل خاص على رعاية السياسة الخليجية الدافعة لأولوية الصراع المذهبي في وجه إيران والشيعة على حساب قضية فلسطين ووحدة الأراضي العربية..
* * *
الأسهل عند البعض، هو اتهامنا بالمواقف الخشبية أو بطغيان الأيديولوجي على السياسي. ونحن هنا لا نخف أبداً مبدئيتنا (بتعبيرهم خشبياً) ولا نخفي أيضاً البعد الفكري والايديولوجي لموقفنا السياسي المعبر، على ما نعتقد، عن مصالح فقراء العرب وعن التمسك بحقوق الشعب الفلسطيني وحق العرب بالتنمية الشاملة عبر استعادة السيطرة على الثروات العربية والقرار السياسي.
لسنا بحاجة إلى الوثائق التي تبرر... قراءة أفقية لجدول أعمال اجتماع كمب ديفيد الذي استدعي له أمراء وممالك الخليج فلبوا صاغرين مطيعين... قراءة بسيطة تؤشر للمرحلة الراهنة من المشروع الأميركي.
جدول أعمال الاجتماع يرتكز، على بناء استراتيجية دفاعية بوجه الخطر الإيراني على الخليج وقضيتي اليمن وسوريا والتعاون، وأيضاً الملف النووي الإيراني في وجهي استخدامه، الضغط على إيران، والاتفاق معها في حال استعدادها للتعاون مع المشروع الأميركي.
الغائب الأساسي عن جدول الأعمال، والتي لم نسمع من أمراء وملوك الخليج أي محاولة لتعديله، هو قضية فلسطين. في الأصل لم يتدخلوا بهذه القضية إلاّ من بوابتها السلبية المواجهة لأية مقاومة للعدو الصهيوني..
نحن لسنا من الهتافة لإنتصارات لم تتحقق. نعترف بأن المشروع الأميركي قد حقق تقدماً بفعل الواقع العربي، ونؤكد أنه رغم ذلك ما زال بعيداً عن تحقيق كامل أهدافه.
وأخطر ما في السياسة الأميركية، هي مرونتها وقدرتها على الالتفاف. ولذلك لا بد من الإشارة إلى عناوين الخطة، كما نفهمها ونقرأها في المرحلة الحالية والمقبلة.
لم تعد خافية عناوين المرحلة الجديدة من المشروع الأميركي. الكونغرس يقر قانون التقسيم الواقعي للعراق إلى دويلات ثلاث. الولايات المتحدة تنظم التعاون مع الحلف المسؤول عن استكمال ودعم وتسليح الإرهاب السوري وبالتالي فرض تقسيم واقعي على سوريا. فها هي التناقضات السعودية، التركية، القطرية، تحل بقدرة قادر أميركي. ولا يستحي ملك الأردن (بالإذن من بعض تابعيه من مدعي اليسار) بإعلان تدريبه للمجموعات المقاتلة. وها هي إسرائيل تدعم قوى الإرهاب على الحدود الجنوبية وتدفع بها باتجاه فتح معركة موازية لمعركة القلمون عبر الحدود اللبنانية. إنها معركة دولة سوريا وضرب جيشها وتقسيمها. وحتماً هذا لا ينف مسؤولية النظام السوري نفسه لجهة عدم قدرته أو عدم رغبته في دفع الحوار مع المعارضة الديمقراطية لتشكيل جبهة حقيقية في مواجهة المخطط الخارجي على قاعدة وحدة سوريا وتطورها الديمقراطي وحق شعبها بالحرية والعدالة الاجتماعية.
ويأخذ التآمر، حده الأقصى في العدوان السعودي على اليمن. لقد كنا سابقاً نعول أن 10% من ريع النفط الذي يسرق لصالح الولايات المتحدة والعائلة المسيطرة في السعودية كاف لحل مشاكل الفقراء والجوع من اليمن إلى السودان والصومال وحل الأزمة الإقتصادية في مصر والعديد من الدول العربية وفي دعم المقاومة من أجل تحرير فلسطين... اليوم هذه النسبة تستخدم لتدمير اليمن وقتل أطفاله ونسائه..... وفي المقابل لا نتلمس مبادرة حقيقية من الأطراف المسيطرة اليوم داخل اليمن تستهدف توحيد الجهود والقوى من أجل الحفاظ على وحدة اليمن وعلى طموح شعبها بالديمقراطية والتنمية.
* * *
في مثل هذه الأيام، اغتالته قوى الظلام. اغتالت فيه ومن قبله أبو نزار وسهيل وخليل والعشرات. لأنها رأت فيهم عنواناً للتغيير الديمقراطي عنواناً لمشروع تقدمي جديد. مداه ليس لبنان فقط، بل العالم العربي. عمقه البحث عن حركة تحرر وطني عربية، تحمل برنامجاً يخرجها من أزمتها ويضعها على طريق استكمال مهام التحرير بالتغيير الديمقراطي وتحرير فلسطين واستعادة الثروة العربية ضمن خيار اشتراكي حاسم للتنمية، انحيازاً لكادحي لبنان وفقراء العالم العربي دولاً وشعوباً...
في مثل هذه الأيام اغتالوا مهدي. لم يميتوه، اثخنوه وحزبه ومشروعه جراحاً، سنميته نحن إذا لم نستكمل المشروع الذي استشهد من أجله