أوروبا والزمن الضائع الصراع من أجل التغيير د. عصام حداد
عقد من زمن القرن الواحد والعشرين يشرف على الانتهاء منذ اندلاع أطول أزمة مالية عالمية أفرزها النظام الرأسمالي المعولم في نهاية عام 2007. وعرفت بأزمة "الائتمان العقاري" في الولايات المتحدة الأميركية وشملت تداعياتها بشكل خاص النظام المالي الأوروبي عامة، وبالذات منظومة اليورو على وجه الخصوص: "أزمة اليورو".
تبنت الدول على ضفتي الأطلسي سياسة إنقاذ البنوك والحفاظ على دورها في إدامة النظام الرأسمالي الليبرالي الجديد، فتحملت مسؤولية سداد ديون لا نظير سابق لها وبدعاوى منها انقاذ مدخرات العمر لعشرات بل مئات الملايين من الأميركيين والأوروبيين. واختلفت هذه الدول من ثم وعلى مدى ما يقرب عقد من الزمن حول الطريق لسداد هذه الديون.
استقرت معالجات حكومة الولايات المتحدة الأميركية على سياسة إغراق الأسواق بالدولار الرخيص بحيث لا يتجاوز سعر الفائدة "الصفر فاصلة" لتحفيز الاستهلاك وبالتالي الإنتاج لضغط مستوى البطالة مجدداً إلى أدنى مستوياتها فوصلت في 30 آذار 2015 إلى 5,5% بعد أن لامست في قمة الأزمة الـ12% ونيف. وحملت أعباء "المشوار الشاق" شرائح المجتمع الوسطى والعمال وعموم المنتجين، فأتى التشغيل الجديد في إطار التوسع الهائل للعمل الجزئي الذي شمل أيضاً خريجي الجامعات والمعاهد العليا. ويعمل اليوم ما يناهز المليون من خريجي الجامعات في قطاع "Fast Food" (في إطار العمل الجزئي). كما إن 58% من عموم مواقع العمل الجديدة هي للعمل الجزئي في حين لم تنل الأزمة حين اندلاعها عام 2007/2008 سوى 21% من العاملين في مجالات العمل الجزئي. ودفع في النهاية أوباما وحزبه الديمقراطي الثمن في نتائج الانتخابات التكميلية الأخيرة والتي أفقدتهما موقع الأغلبية في الكونغرس الأميركي.
عارض أولياء اليورو في برلين العاصمة الفعلية "لأوروبا الألمانية" كما يحلو للسيد يوشكا فيشر (وزير الخارجية الألماني الأسبق حتى 2005 من حزب الخضر) تسميتها، الاتجاه الأميركي لحل الأزمة والتي شاركت البنوك الأوروبية الرئيسية (حاملة النظام ورافعته) في إنتاجها في الكازينو العالمي وهم يصرون حتى اليوم على ما أطلقوا عليه "سياسة التقشف" المفروضة ببند دستوري على كل دول في منظومة اليورو حتى سداد العجز / الديون التي تولدت عن انقاذ البنوك العتيدة من الإفلاس. وفرض على المكلف دافع الضرائب من عمال ومنتجين وطبقات وسطى سدادها، ليصبح بعد ذلك ممكناً أن تعود الدول لدورها في الانفاق للصالح العام الاجتماعي والاقتصادي.
تنامت المعارضة وانفجرت الأزمة في أضعف حلقاتها، فانتخبت اليونان "حكومة اليسار الجذري" "سيريتزا" وعبر عن اتجاه التطور الجديد وزير خارجيتها "ياني فاروفاكيس" من أتباع كاينيس بامتياز: "لن تدفع اليونان فلساً واحداً من الفوائد على ديونها قبل أن يتعافى الاقتصاد اليوناني...."
ويصرخ من جهة أخرى مدير البنك البريطاني المركزي (Bank of England) السيد مارك كارني: "أوروبا تقف على أعتاب عقد جديد من الضياع ما لم نتمكن من إحداث التغيير المطلوب في المشهد الأوروبي..."
في المشهد الأوروبي الراهن
سجلت صادرات بلدان منظومة اليورو في عام 2014 ارتفاعاً غير مسبوق ومتنوع الاتجاهات. فقد بلغت مبيعات ألمانيا الاتحادية في إطار بلدان منظومة اليورو وهي سوقها الطبيعي والتقليدي ما قيمته 415 بليون يورو في حين وصلت إلى 725 بليون يورو إلى أسواق خارج منظومة اليورو وهذا تطور غير معهود في تاريخ الاقتصاد الألماني.
وشهد قطاع الصادرات للاقتصاد الإسباني (وبخاصة صناعة السيارات) ارتفاعاً لافتاً للنظر بلغت نسبته 2,5% ومتجاوزاً نسبة ارتفاع صادرات كل من فرنسا وبريطانيا ووصل حجمها إلى 240 بليون يورو. وتلحظ الإحصاءات المنشورة توجه الصادرات الإسبانية الصناعية والزراعية إلى أسواق بلدان منظومة اليورو في حين شكلت بلدان أميركا اللاتينية الأسواق التقليدية للصادرات الإسبانية الصناعية.
وتزامنت هذه التطورات مع تراجع ملموس في حجم ومستويات البطالة في بلدان منظومة اليورو بشكل خاص وبلدان الاتحاد الأوروبي بشكل عام بارتفاع الطلب الداخلي على السلع وبشكل ملحوظ في ألمانيا الاتحادية. وسجلت دائرة الإحصاءات في الاتحاد الأوروبي (يوروستات) تراجع نسبة البطالة في نطاق دول منظومة اليورو (19 دولة) إلى 11,3 % في شباط من العام الحالي مما يعني استمرار 18 مليون امرأة ورجل دون عمل في حين بلغ عددهم 24 مليون نسمة (بنسبة 9,8%) في مجموع بلدان الاتحاد الأوروبي الـ28. وتقيم هذه النسبة بالأدنى منذ أيلول منذ عام 2011. ويجدر الذكر بأن اليونان تحتل الموقع الأول في نسبة البطالة والتي تراوح راهناً (إحصاءات شباط 2015) عن 26% وتصل بين الشباب (بين الـ14 والـ25 عام) إلى نسبة درامية تبلغ 51,2% (إحصاءات كانون أول عام 2014). وشهدت البطالة بين صفوف الشباب في إسبانيا تراجعاً ضئيلاً (1,1%) فبلغت 50,7% في شباط 2015، وهذا في الوقت الذي أحصت فيه "يوروستات" نسبة مجموع العاطلين والعاطلات عن العمل في سن الشباب في بلدان منظومة اليورو بـ23%.
وتتقدم ألمانيا الاتحادية على سائر بلدان منظومة اليورو في تراجع نسبة البطالة على أرضها إذ بلغت 4,8% فقط ( شباط 2015) شاملة بذلك 2,9 مليون من المقيمين على الأرض الألمانية.
اليورو الرخيص
يعيد المراقبون هذا التطور على الصعيد الأوروبي بشكل رئيسي إلى خفض قيمة اليورو أولاً مع استمرار تدني سعر الفائدة إلى حدود الصفر (على اليورو) وذلك من جراء السياسة التي ينتهجها البنك الأوروبي المركزي والمعلن عنها منذ منتصف العام المنصرم وترمي هذه السياسة إلى زيادة حجم السيولة النقدية لدى البنوك الأوروبية من خلال شراء ما راكمته هذه البنوك من أوراق نقدية واصدارات الخزينة (بما في ذلك تلك التي لا يتجاوز تصنيفها مستوى BBB). ورسم البنك الأوروبي المركزي سقفاً لهذه السياسة يصل إلى 1,1 تريليون (ألف بليون) يورو ومدة زمنية حتى أيلول من عام 2017 كما استثنى اليونان وقبرص من خيرات هذه السياسة إلا في حال التزام الدولتين بضوابط سياسة التقشف لبلدان منظومة اليورو وتحت رقابة الترويكا الشهيرة من: صندوق النقد الدولي، والبنك الأوروبي المركزي، والمفوضية الأوروبية.
فحصد البنك الأوروبي المركزي في الأيام الثلاثة الأولى لتطبيق هذه السياسة ما قيمته 10 بليون يورو، والحبل على الجرار.... وهكذا بدأ إغراق البنوك الأوروبية والأسواق باليورو بسعر فائدة متدنية جداً فتراجعت قيمته (أمام الدولار) من 1,40 دولاراً في حزيران 2014 إلى 1,05 دولار في نهاية شهر آذار 2015. ومازال يراوح في جوار هذا السعر حتى يومنا هذا. ويتوقع البنك الألماني وهو أكبر بنك "ألماني" بأن يتابع اليورو تراجعه ليصل إلى 0,85 دولار في نهاية 2017. والحال كذلك ارتفع الطلب على المنتوجات من بلدان منظومة اليورو، ووصلت الصادرات لبعض ما وصلت إليه كما سبق ذكره. وسهل المال الرخيص تمويل الاقتصاد الإنتاجي وتوسيع إطار التشغيل، وخاصة الجزئي بسلبياته الإجرامية اجتماعياً. فتراجعت نسبة البطالة (كما أوردت سابقاً) وذلك في وقت تكبح سياسة التقشف المفروضة أوروبياً (وألمانيا بالنسبة للأغلبية من المراقبين) أية استثمارات للقطاع العام في بلدان منظومة اليورو. وهكذا يخدم هذا التطور نسبياً وبشكل غير مباشر توجهات حكومتي باريس وروما ومن أمامها اليونان وقبرص والتي تطالب باعتماد سياسة وبرامج الاستثمار والنمو الاقتصادي بهدف مكافحة البطالة وبخاصة في صفوف الشباب وما تحمل هذه من أخطار متنامية في أوروبا اليوم في اتجاه اليمين المتطرف العنصري والفاشي. تُثير سياسة البنك المركزي الأوروبي المنوه إليها أعلاه جدالاً واسعاً وخاصة في ألمانيا. فهنا من يرى بأن "العملة القوية" تشكل حافزاً مهماً لدى المنتجين للاهتمام المستمر بتحسين جودة نوعية المنتوجات لتسهيل قدرتها على المنافسة في الأسواق العالمية. ويسوقون لذلك التجربة التاريخية "للمارك القوي" وما وفره من استقرار اقتصادي نسبي طويل لألمانيا وفي دائرة فعلها الأوروبية. ولذلك يخشى منظرو هذا الاتجاه مما قد يؤدي إليه اليورو الرخيص راهناً من إقبال مرتفع على استيراد المنتوجات الألمانية مصحوباً بتراجع الدافع لتحسين النوعية والارتقاء المستمر بها. وبالتالي سهولة منافستها عالمياً. كما تشير أوساط مالية نافذة إلى الأخطار التي تحيق بالمدخرات الشعبية وهي بالغة الأهمية للأداء الاقتصادي الألماني العام (الحكومي) والخاص داخل الاتحاد الأوروبي وخارجه. وتفوق هذه المدخرات التي تقدر بـ12 تريليون يورو راهناً مجموع المدخرات الشعبية الفرنسية والانجليزية مجتمعة وهي تتجه (بعضها) اليوم إلى اللجوء إلى قطاع الأسهم والعقارات وتسهم في إرتفاع الاستهلاك الملحوظ منذ منتصف العام الماضي هرباً من تراجع القيمة الشرائية لليورو. وتبدي الأوساط المالية المطلعة تخوفها من أن تغادر أسواق ألمانيا أجزاء من "طوفان المدخرات" تعجز الأسواق الألمانية عن استيعابها فتهاجر إلى الخارج وحيث يشكل الدولار الأمريكي على وجه الخصوص عاملاً جاذباً وبشدة حيث بلغت الهوة بين سعر الفائدة على سندات الخزينة (لعشر سنوات) 1,9% لصالح الدولار وضد اليورو. ويؤخذ المثال على احتمال هكذا توجه من سلوك البيوتات المالية التي تدير أضخم الثروات في آسيا وحيث لجأت هذه ومنذ منتصف العام المنصرم إلى نقل 90% من احتياطاتها وموجوداتها إلى الدولار الأمريكي. وتراكم هكذا خطوات المزيد من الضغوطات لغير صالح سعر صرف اليورو مقابل الدولار الأميركي والذي يزداد تحسناً بحكم تنامي المراهنات على قرب إقدام "بنك الاحتياط الفيدرالي الأمريكي" على رفع سعر الفائدة لكبح حجم الكتلة النقدية في الأسواق تفادياً للجمود والتراجع الاقتصادي في الولايات المتحدة الأميركية.
النقابات والإزدهار الاقتصادي والتغيير الأوروبي المطلوب:
يتضح من سياق التطور الراهن بأن البنك الأوروبي المركزي يحاكي التجربة الأميركية في معالجة تداعيات أزمة الديون الاقتصادية والاجتماعية من خلال الدفع باتجاه "اليورو الرخيص" وإغراق الأسواق بالعملة الرخيصة لفسح المجال للبنوك لتمويل الاقتصاد الطبيعي والنهوض بمستويات التشغيل "الجزئي" عامة.
أخيراً تدخلت النقابات في الجدل المستعر حول "أزمة اليورو" وطرق معالجتها ونوهت بوضوح إلى: أن قفزة الصادرات القائمة على خفض قيمة اليورو هي كبناء القصور على الرمال وبالتالي ليست بالواعدة. كما أن توسع الاستهلاك الملحوظ مؤخراً والمستمر في ألمانيا خصوصاً يعود وبشكل رئيسي للزيادة في الأجور الفعلية التي انتزعت لصالح المنتجين في العام المنصرم والتي بلغت 1,7% وذلك لأول مرة بعد إندلاع الأزمة المالية عام 2008. ويضاف لذلك الأثر العميق لتثبيت قرار شمولية الحد الأدنى للأجور ولأول مرة في تاريخ جمهورية ألمانيا الاتحادية الحديثة والموحدة وذلك لكافة قطاعات الاقتصاد والعمل وبموجب قانون صادق عليه البوندستاغ أي البرلمان المركزي. لهذا القانون أثر إيجابي في سلوك المنتجين الاقتصادية والاجتماعية كما تلاحظ في الإقدام على المزيد من الاستهلاك. ولذلك تتوقع الدوائر والمؤسسات الاقتصادية المقربة من النقابات العمالية نمو الاقتصاد بنسبة 2,2% لهذا العام والعام الذي يليه، الأمر الذي يعد بتوسيع العمالة والحد من البطالة. كما يؤدي إلى زيادة في واردات الدولة من الضرائب وغيرها. وتلح هذه الدوائر ومن خلفها النقابات على ضرورة عودة الدولة لتوسيع الانفاق ووضع برنامج تموله الجولة للاستثمارات في البنى التحتية الملحة خاصة والضرورية وعدم اللجوء إلى القطاع الخاص لتمويلها. ورفعت النقابات صوتها عالياً مؤخراً وحشدت لمظاهرات التضامن مع الحكومة اليونانية وتلح على ضرورة بذل كل الجهود للوصول إلى حلول واقعية لأزمة اليورو عامة واليونان (وإسبانيا والبرتغال) خاصة مما يفتح المجال أمام بلدان منظومة اليورو للعود لبرامج للتنمية باستثمارات وتوظيفات حكومية تسهم في مكافحة البطالة وخاصة بين الشباب ولتحد من تداعياتها الخطوة التي يشهد عليها نمو التيارات القومية الانغلاقية والشوفينية والفاشية أكانت تحت غطاء العداء للإسلام أم لكل ما هو أجنبي. وتمحض النقابات تأييدها لبرامج الاستثمارات للتنمية التي يدعو إليها ويبشر بها رئيس المفوضية الأوروبية والبالغ 300 بليون يورو وتشترط النقابات تمويله حكومياً وليس من خلال القطاع الخاص. وعلى هذا الطريق تنتظر أوروبا مصير انتخابات إسبانيا في مطلع خريف هذا العام والنتائج المرتقبة لصالح اليسار فيها بكافة تشكيلاته كما لا ينسى المراقبون أهمية نتائج انتخابات مجلس العموم البريطاني في مطلع أيار الحالي وما يحمله من إمكانيات للتغيير في المشهد الأوروبي العام. فلم تذهب أدراج الرياح وعود كاميرون بعرض عضوية انجلترا في الاتحاد الأوروبي على الاستفتاء الشعبي هذا من جهة كما لم يعد ممكناً الاستمرار في أوروبا عامة ومنظومة اليورو خاصة دون الأخذ بعين الاعتبار تنامي التيار القومي الانعزالي الشوفيني في العديد من بلدان الاتحاد الأوروبي وفي مقدمتها فرنسا بقيادة "الجبهة الوطنية" وهي الدولة الثانية المؤسسة للاتحاد.