الإدارات الرسمية مزارع تدار حسب أهواء سلطة الوصاية أو المزاج الطائفي د. داهج المقداد
إن تكريس الطائفية كأساس للتركيبة السياسية الحاكمة في لبنان ما بعد الانتداب الفرنسي، شكل السبب الأساس الذي حال دون نشوء دولة حديثة لها مقومات الاستمرارية والتطوير، وهذا ما ظهر سريعا" في انهيار هذه الصيغة مع بداية الحرب الأهلية في سنة 1975، مع ما رافقها من تداعيات سلبية على الدولة والمجتمع، تجلت في الفرز الطائفي والتغيير الديموغرافي وتقكك مؤسسات الدولة الرسمية، وكما التركيبة السياسية فالمحاصصة الطائفية هي ميزة أساسية للادارة اللبنانية، فالمفاهيم التي دأب على تردادها منظرو الفكر الطائفي، بأن لا عيب في قيام إدارة حديثة قابلة للتطوير مع حفظ حقوق الطوائف والمذاهب ضمن تركيبتها قد أثبتت خطأها فالادارة هي أداة تنفيذية في يد السلطة الحاكمة، وما دامت مكونات هذه السلطة تمعن في سلوك النهج الطائفي والفئوي في الحكم فالإدارة إلى مزيد من التفكك والدولة إلى مزيد من الانهيار.
لقد مرت الادارة اللبنانية بمراحل تاريخية مهمة أثرت بتكوينها وطبعتها بآثار الانظمة السياسية التي سادتها، بدءاً بالحكم العثماني، حيث سادت الفوضى والفساد، مروراً بعهد الانتداب الفرنسي الذي أدخل بعض التحسينات من خلال إقرار بعض الأنظمة لتحسين الأداء في أجهزة الدولة، إلا أنها بقيت متخلفة عن إمكانية التطور والتقدم.
في مرحلة ما بعد الاستقلال، تم إخضاع الادارة إلى حركة إصلاحية شاملة تناولت تنظيم الإدارات العامة ومؤسسات القطاع العام، وتركزت على تأمين العناصر البشرية المؤهلة لتلك الإدارات والمؤسسات.
خلال عام 1959 صدرت نصوص قانونية تناولت بصورة أساسية تنظيم الإدارات والمؤسسات العامة القائمة، كما تناولت نظام الموظفين الجديد وإنشاء مجلس الخدمة المدنية والتفتيش المركزي كإدارتين أساسيتين في إطار تنظيم الإدارة اللبنانية الحديثة. وبهذا تم تأمين إخضاع إدارة الموظفين لقواعد موحدة في إطار القوانين والانظمة العائدة للوظيفة العامة، لكن هذا ما كان ليستمر مع وجود المؤثرات الخارجية من سياسية ومادية وطائفية التي حالت، وتحول، دون استكمال الشروط التي نص عليها قانون الموظفين بالنسبة لترفيع الموظفين من فئة إلى فئة أعلى، أو التعيين بالأصالة، حيث أمست الإدارات الرسمية حالياً مزارع تدار حسب أهواء سلطة الوصاية أو المزاج الطائفي لصاحب القرار، فتتم التعيينات في الادارات والمؤسسات العامة عن طريق التعاقد دون الرجوع إلى مجلس الخدمة المدنية ، مما أفرغ الادارة والقطاع العام من ملاكه المنصوص عنه في القانون حيث أن عدد الموظفين الحالي لا يتعدى الـ 7500 موظفاً من أصل حوالي الـ 21 ألف وظيفة ملحوظة في الملاك الاداري.
من المسلم به أن التخلف الإداري من أهم الأسباب التي تعرقل برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي أن تطوير الإدارة العامة يؤلف شرطاً أساسياً لدفع عجلة التنمية وتمكين الدولة من القيام بالدور المطلوب. وهنا يقتضي التشديد على أن تطوير الجهاز الإداري الحكومي تطويراً جذرياً لا يمكن أن يتم إلا كجزء من تطوير اجتماعي شامل يتناول جميع نواحي المجتمع من سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية. وقد أشار عدد كبير من رواد الفكر الاجتماعي والإنساني إلى أن الشق المادي والمعنوي الذي يطال حياة الموظف ومعيشته، تؤثر بالقدر الكبير على مستوى ما يبذله وما يتولاه في الوظيفة التي يشغلها، ولا شك بأن راتب الموظف ومجمل ما يتقاضاه من عطاءات مادية ومعنوية من شأنه أن يحدد مسار عمله الوظيفي بين خطين متوازيين لا يلتقيان: خط الاستقامة والإتقان وخط الانحراف وعدم الجدارة.
لقد توالت التدابير المجتزءة التي أقدمت عليها الدولة، بتقرير زيادات المعيشة ومن ثم بتحويل سلسلة الرتب والرواتب وتعددت حالات الخروج عن مبدأ التوازن بين راتب الموظف وتعويضاته وبين القطاعات الوظيفية نفسها، مما خلق جواً من عدم الثقة دفع الكثير من الموظفين خاصة في الإدارات الرسمية إلى تقديم إستقالاتهم وامتناع العديد من التقدم لشغل وظائف في القطاع العام وباتت الإدارة الرسمية فارغة من مكونات تسيير مرافق الدولة وحلت مكانها مؤسسات خاصة ومدارس وجامعات ومراكز طبية لها طابع طائفي ومذهبي.
إن مجرد تحرك تكوين نقابي جدي وحر في السنوات الأربعة المنصرمة في شخص هيئة التنسيق النقابية للمطالبة بإنصاف الموظفين والمعلمين وأفراد المؤسسات الأمنية والعسكرية بسلسلة رتب ورواتب عادلة كحق لهم لدى الدولة، استنفر كل أصحاب السلطة ومن ورائهم ممثلي الهيئات الاقتصادية والمالية إلى الاتحاد والتكاتف لخنق هذه التجربة النقابية الرائدة في تاريخنا الحديث ، تمثلت في ذلك الاجماع النادر لقوى وأحزاب وتيارات ممثلة في الحكومة وفي المجلس النيابي على محاولة إقصاء أحد أهم رموز الحركة النقابية الحديثة فقط لأنه غريب عن فكر هذه الطبقة ويتبع خيارات وطنية جامعة.
إن حال أفراد القطاع العام بأسلاكه المتعددة يتطلب منا جميعاً وخاصة موظفي الإدارات الرسمية أن نكون على مستوى التحديات وعلى قدر كبير من المسؤولية في الذود والدفاع عن آخر رموز وحدة هذا البلد.
إن هذا يتطلب من كل أفراد الأسلاك الوظيفية ومن الموظفين في الادارات الرسمية خاصة بذل مجهود أكبر، والتزاماً بالذود عن ديمومة القطاع العام والوقوف في وجه استهداف الوظيفة العامة، وإلغاءها لصالح التعاقد الوظيفي وخصخصة القطاعات الإنتاجية للدولة