كلمة: موريس نهرا أول أيار رمز النضال لانتزاع الحقوق العمالية والاستقلالية النقابية
الأول من أيار لم تقره السلطة اللبنانية عيداً للعمال، إلا في أواسط الخمسينات. لكن الاحتفال به كان يجري في تجمعات أو تظاهرات تتعرض غالباً للقمع والملاحقة.
لقد قام الحزب الشيوعي اللبناني ومنذ تأسيسه، بالدور الطليعي في نشر الوعي النقابي والطبقي، وفي التحركات العمالية، والمطالبة بإقرار الأول من أيار عيداً للعمال. وقد ارتبط نشوؤه بالأساس، ببروز تجمعات عمالية وولادة طبقة اجتماعية جديدة، استدعت قيام حزب سياسي يمثل مصالحها ومطامحها، القريبة منها، والبعيدة المتعلقة بالهدف الاشتراكي، وإلغاء استثمار الإنسان للإنسان.
لقد ركز هذا الحزب في مسيرة نضاله الطويلة، على العمل في صفوف العمال والفئات الشعبية الكادحة، ولإيجاد نقابات توحدهم في كل مهنة أو قطاع، وتقود نضالاتهم لتحقيق مطالبهم وتحسين ظروف معيشتهم، وعلى قاعدة التمييز بين طبيعة الحزب الذي من أهدافه الوصول إلى السلطة، وبين دور النقابة التي تضم جمهوراً من العمال، يضم حزبيين وغير حزبيين، وهم الأكثرية في الجسم العمالي، من أجل تحقيق مطالبهم الاقتصادية.
لقد شق الحزب في نضاله هذا، طريق إنشاء نقابات عمالية مستقلة عن أرباب العمل وعن السلطة، بديلاً من جمعيات تجيزها سلطات الانتداب الفرنسي، تجمع العمال وأرباب العمل معاً. ومع تكاثر المهن وبالتالي العمال في عقد الثلاثينات، تنامت النشاطات والإضرابات العمالية، سواء في شركات الاحتكار الفرنسية، كالريجي والكهرباء، وسكة الحديد وغيرها، أم في مهن وقطاعات أخرى. وكان أبرزها نقابة عمال المطابع والريجي، وتحركات المستأجرين، وأضراب السواقين الكبير عام 1935، الذي سقط فيه الشهيدان حبيب دياب ونمر الرموز في انطلياس، عندما أرادا إيقاف سيارة مندفعة لكسر الإضراب، تابعة لأمن عام سلطة الإنتداب، فإجتحاتهما.
ومع الدور النضالي المتواصل للحزب من أجل الاستقلال الوطني. خصوصاً إبان معركة الاستقلال عام 1943، كان للجمهور العمالي والشعبي ونقاباته التي للشيوعيين تأثيراً أساسياً في قيادتها، دوراً مهماً في وجهي النضال، المطلبي الاجتماعي، والوطني الاستقلالي.
ومع تصاعد هذا الدور بعد نيل الاستقلال، استطاع اتحاد نقابات العمال والمستخدمين برئاسة القائد الشيوعي النقابي مصطفى العريس، أن ينتزع إقرار قانون العمل اللبناني عام 1946، بعد إضرابات واعتصامات جماهيرية، فرضت إنهاء المماطلة وإقرار هذا القانون.
لكن اتساع النضالات العمالية، لم يرُق للسلطة، فأدى قمع إضراب عمال الريجي في العام نفسه إلى استشهاد العاملة وردة بطرس، برصاص الأمن السلطوي وشكل هذا الحدث إدانة عمالية صارخة، وكشف معاداة السلطة لقضايا الطبقة العاملة وحقوقها.
لقد استدعى تطبيق قانون العمل بعد إقراره، معارك نضالية وإضرابات وتضحيات وفصل من العمل. وإلى اليوم نجد عمالاً ومستخدمين، يُحرمون من حقوق ينصّ عليها القانون.
ومع ازدياد مشكلات وأزمات النظام الاقتصادي القائم في أواسط الستينات، وانفجار أزمة بنك انترا، ومشكلات القطاع الزراعي وغيره، ازداد بروز تحركات العمال والمزارعين والطلاب والمعلمين.. الخ في اعتصامات وتظاهرات احتجاجية ومطلبية، بما فيها للمستأجرين. وبدلاً من إقدام السلطة على وضع حلول، أخذت باللجوء إلى سلاح الطائفية لتقسيم صفوف العمال والفئات الشعبية، وإلى استخدام القمع الدموي، الذي أدى في أوائل السبعينات إلى استشهاد عمال مضربين في معمل غندور من أجل حقوقهم، وإلى قمع تحركات طلابية، وإلى استشهاد بعض المتظاهرين من مزارعي الدخان في النبطية، وإلى اغتيال القائد الشعبي الشهيد معروف سعد، على رأس تظاهرة صيادي الأسماك في صيدا في شباط 1975. وقد شكل هذا القمع المتمادي مؤشراً للسير في منحى الحرب الأهلية التي كانت الفئات العمالية والشعبية ضحاياها ووقوداً لها.
والآن وبعد انقضاء 25 سنة على وقف هذه الحرب، ما زالت أسبابها والأزمات والتناقضات في بنية النظام الطائفي الطبقي، قائمة وأكثر حدة وخطراً. ولم تكتفِ الطبقة السلطوية بالأحجام عن تحقيق إصلاحات جدية وضرورية، تخرج لبنان الشعب والوطن من الحالة المأزقية، بل استخدمت أسلوب التسويات الفوقية المؤقتة والتحايل والمماطلة، كما يتكرر اليوم حيال إقرار سلسلة الرتب والرواتب. فما فعلوه عام 1997 من تدخل وقمع لفرض قيادة تابعة للسلطويين على رأس الاتحاد العمالي العام، للجمه عن القيام بدوره، تفاهموا معاً بالأمس على ما يشبهه، بغرض افقاد رابطة المعلمين الثانويين وهيئة التنسيق النقابية استقلاليتها.
لقد أتى أول أيار هذا العام في ظل أزمات اجتماعية ووطنية مفتوحة، وتتسبب بتكاثر التحركات الاحتجاجية والمطلبية لإنتزاع الحقوق، ورفض زيادة الرسوم والضرائب على الشعب، وإلغاء مشروع قانون الإيجارات التهجيري الذي يؤدي إلى استكمال الفرز الطائفي والطبقي الذي أوجدته الحرب. وهذه المشكلات وغيرها استولدت استياء يشمل معظم اللبنانيين، وينشأ عنها مطالب تطاول فئات اجتماعية متعددة، تشعر بالحاجة نفسها، وهذا ما يُبرز الطابع الأشمل للأزمة، وأهمية وضرورة قيام حركة نقابية مستقلة تغطي في عملها وطروحاتها، قضايا ومطالب قاعدة عمالية وشعبية أكثر اتساعاً، إلى جانب المطالب المتعلقة بفئة اجتماعية محددة.
لقد طرأت تغيرات جدية على البنية الطبقية لمجتمعنا، فمقابل تناقص الوجود العمالي المركّز في مؤسسات إنتاجية كبيرة بسبب الحرب وما بعدها، يزداد حجم العمل المأجور شاملاً فئات من التقنيين والمهندسين ومن المهن الحرة، إضافة إلى العاملين في القطاع العام. وتنحدر معيشة فئات كبيرة من الطبقة الوسطى، لتتشابه معيشياً مع وضع العمال.
مما يدفع لاتساع التحركات والنضالات العمالية والشعبية، ويُكسب جمهور العمَال وعياً نقابياً، ويكشف لهم بالتجربة، من يناضل بصدق وتضحية من أجل مصالحهم، ومن يقف ضد تحقيق هذه المصالح. فيرتقي بذلك الوعي السياسي أيضاً، وصولاً إلى الخروج من شباك التبعية لهذا الزعيم أو ذاك، والاستقلال في النظرة والموقف. كما أن المطالب والتحركات التي تجمع قاعدة اجتماعية خارقة للطوائف، كما برز في تحركات هيئة التنسيق النقابية، يشكل عاملاُ أساسياً في بناء وحدة الوطن ودولة المواطنة والعدالة الاجتماعية.
العمال بدمائهم، والى السواعد العمالية التي ينبع من عرقها كل الخير، إلى الطبقة العاملة اللبنانية والعربية والعالمية، تحية انتماء وكفاح ونجاح..