الى الوراء در! د. طنوس شلهوب
عندما طُلب مني الكتابة عن التربية والتعليم في ملف الذكرى الأربعين لاندلاع الحرب الأهلية وجدت نفسي مأخوذاً بالعودة الى الوراء، وكأن الأربعين عاماً المنصرمة ليست سوى لحظة تم اجتيازها ذهنياً بما يمتلكه العقل من خاصية إحياء الماضي واسترجاع أحداثه، وبالتالي يسهل على المرء التنقل بين الماضي والحاضر عبر جسر الذكريات، وقررت أن أجانب مقاربة الموضوع بالطريقة البحثية الصارمة، راغباً في إضفاء البعض من الذاتي، علَّني أنجح في تقديم رؤية عبر موشور التجربة الشخصية آملاً أن أوفق في تقديم صورة متعددة الألوان تجعل من النص اكثر متعة للقراءة، تماماً كما يتحول اللون الأبيض العابر للموشور الهندسي الى مجموع ألوان قوس القزح.
في تكميلية عين الرمانة (المعروفة بتكميلية داغر نسبة الى مديرها آنذاك الاستاذ ميخائيل داغر) أنهيت المرحلة التكميلية، وانتقلت الى ثانوية الشياح المجاورة (والمعروفة بثانوية سعيد نسبة الى مديرها أيضاً الأستاذ شفيق سعيد). ما يلفت الانتباه في تلك الفترة الزمنية نسب المدرسة الى مديرها، وهي حالة تميز بها الكثير من التكميليات والثانويات وهذا يشير الى النجاح الذي حققته المدرسة الرسمية، والدور المحوري الذي لعبه المديرون على الصعيدين الإداري والتعليمي التربوي. أما البرنامج التدريسي فهو من العناصر الأساسية في المشروع التربوي. وكان لافتاً المستوى العلمي الجيد الذي تميز به الطلاب اللبنانيون الذين التحقوا في الجامعات خارج لبنان مما يشير الى جودة البرامج التعليمية قبل الجامعية في فترة ما قبل الحرب الأهلية.
في السبعينيات شهدت المدرسة الرسمية ذروة تألقها، وكانت ملجأ أبناء الكادحين وحتى متوسطي الحال، وكانت المعارك الطبقية تتمحور حول شعار ديمقراطية التعليم، مع ما يفترضه هذا الشعار من تطوير للمدرسة الرسمية ومن إنشاء كليات تطبيقية في الجامعة اللبنانية، وكان التعليم الرسمي هو المجال الذي يمكن من خلاله للبنانيين الفقراء من تسلق سلم الترقي الاجتماعي. معركة ديمقراطية التعليم أولاً، وجودته تالياً، اختصرت أحد أهم أركان وظيفة الدولة، وربما تحددت هوية الدولة انطلاقاً من دورها في قطاع التعليم، أي أن تكون دولة الرعاية الاجتماعية أم تكون سلطة الطغمة المالية. اليسار رفع قضية التعليم كإحدى الأولويات على الصعيد الاقتصادي الاجتماعي، باعتبار التعليم الرسمي هو الإطار الذي يتكون في سياقه وعي وطني موحد للبنانيين بغض النظر عن الانتماءات الدينية، أو الاجتماعية أو حتى الطبقية.
التعليم الرسمي كان الحاضنة الثقافية لمشروع النهوض الوطني بما يجسد الصراع الطبقي في المستوى الأيديولوجي بين تعليم خاص "مفرنج" وأحياناً "مطيف" وتعليم رسمي مجاني لتأكيد حضور دولة الرعاية الاجتماعية على الصعيد التعليمي. وانعكست التغيرات الاجتماعية التي طرأت على ضواحي العاصمة بفعل الهجرة المتزايدة من الريف الى المدينة على دور المدرسة الرسمية وعلى تركيبتها البشرية لناحية الادارة والمعلمين والتلامذة.
وكما في التكميلية، كذلك في الثانوية، كان لي الأصدقاء من المناطق والأطياف المختلفة، وانخرطت مع الكثير من زملاء تلك المرحلة في الأنشطة الطلابية عبر اتحاد الشباب الديمقراطي، وكان لنا دور رائد كما في المظاهرات والتحركات المطلبية المختلفة، كذلك في إطلاق العديد من المبادرات ومنها تنظيم صفوف تدريس مجاني للأولاد في مركز الاتحاد في الشياح، بحيث كان المركز يغص بالتلامذة التواقين للحصول على المساعدة من قبل شباب الاتحاد. وصرنا نمارس دوراً مزدوجاً، فكنا طلاباً في الثانوية، و"مدرسين" في الاتحاد. كان التفوق الدراسي من معايير النجاح النضالي. وربما لن يكون مبالغاً فيه القول إن التعليم الرسمي بكل مراحله ومساراته قد عزز تكون المشروع السياسي للحركة الوطنية بما هو، وحتى اليوم، يشكل المدخل لبناء وطن معاصر.
الحرب، التي اندلعت ما قبل البارحة، وانتهت البارحة، كما في أفلام السينما، هي فعل قتل، وتدمير، وتهجير، ولها تداعيات مادية ومعنوية، ولكنها انتهت على زغل. ما كان متاحاً لمشروع الدولة غير المكتملة، تم القضاء عليه، وما جرى تشييده لم يكن سوى سلطة سياسية تتميز بانتهازية ويقوم مشروعها على الريع والتجارة والسمسرة. الحرب قسمت الوطن تبعاً للتركيبة الطائفية في الكثير من المناطق، وتفاقم استخدام التعليم الرسمي كمجال للتوظيف السياسي والطائفي، وأفرزت عمليات التهجير المناطق "الصافية طائفياً ومذهبياً"، وانعكس ذلك على الأجواء في المدارس وفي معظم فروع كليات الجامعة اللبنانية. وتراجعت منظومة القيم الاجتماعية لصالح بيئة الفساد والانتهازية والاستزلام، وغابت السياسة التربوية، وهذا الغياب هو من خصائص نظام الطغمة المالية المرتبطة بالشركات والمصالح الخارجية. قطاع التعليم الرسمي كان من بين القطاعات الأكثر تضرراً، وتراجع موقعه لحساب القطاع الخاص. ما تحققه بعض الثانويات من نجاحات يعود فيه الفضل للطاقم الإداري والتعليمي الذي كان له الدور الأساس في تطوير التعليم الرسمي. ولأن الحرب اقفلت على زغل فإننا غير قادرين اليوم على وضع كتاب تاريخ مدرسي موحد. والبرامج التي عُدلت وتم تقليص حجمها جاءت في ظل منحى عام يؤشر الى هيمنة فلسفة التعليم الأميركية على تلك الأوروبية، وبالتالي فإن التعديلات تجري وفق مبدأ "النسخ (بعد الترجمة الرديئة) واللصق" من دون القيام بالمجهود الكافي "للبننة" التعديلات، التي من الضروري القيام بها بشكل مستمر بما يخدم الاحتياجات الاجتماعية والاهداف التي تحددها السياسة التربوية.
الناسُ تطلب العلم للتحرر والترقي. المعرفة قوة وحرية. في القوة والحرية يسهل التخلص من معوقات الجهل والتخلف. اللبنانيون بشكل عام يضحون بالغالي والرخيص لتعليم أولادهم. المدرسة الرسمية فتحت الآفاق أمام الآلاف من أبناء الشعب اللبناني لسلوك طريق الترقي الاجتماعي والنجاح الفردي. التعليم الرسمي هو ابن الدولة، الدولة غير مكتملة التكوين، الدولة المُنتهكة من قبل الطوائف والمذاهب. العلم وما يتبعه من ترقي يفترض بالفرد التخلص من ترسبات الطائفية والانعتاق نحو مشروع المواطنة. الدولة الطائفية لا تسمح للفرد بان يكون مواطناً. في الدولة الطائفية لا مواطنين إلا من موقع المعارضة والتغيير الديمقراطي. أن تكون مواطناً في ظل النظام الطائفي ليس عليك فقط أن تتخلى عن منظومة الحماية الطائفية التي تتوهم بأن النظام الطائفي يؤمنها لك، انما أيضاً عليك ان تواجه هذا النظام.
أن تكون أستاذاً هو امتياز لما يُفترض أن يكون مناطاً بك من دور في صياغة عقول التلامذة والتأثير عليهم. على الأستاذ ممارسة دور المربي الى جانب الدور الأكاديمي. و يُفترض به أن يكون طليعياً، ليس فقط بعمله الأكاديمي إنما أيضاً بالتفاعل مع طلابه على أرضية توسيع المشتركات الإنسانية، ونبذ كل عصبيات نافية للعلم والمنطق، خصوصاً إذا كان هذا الأستاذ ينتمي الى قطاع التعليم الرسمي.
أساتذة اليوم، هم أولاد الحرب وما بعدها، وهم نتاج لوعي اجتماعي مشوه يقوم على كل إفرازات الحرب من طائفية ومذهبية واستزلام، وتوكل اليهم إحدى أكثر المسائل حساسية وأهمية: تكوين العقول.
في النتائج، فإن نظامنا التربوي، بكافة عناصره وعلى كل مستوياته، وفي قطاعيه العام والخاص، يحتاج إلى إعادة بحث حول الأهداف والوسائل، وهذه المراجعة لا تستقيم خارج مشروع الدولة، والتي ينبغي عليها أن تحدد وظيفة التعليم وأهدافه. وغياب مشروع الدولة الوطنية لن ينتج مشروعاً تربوياً وطنياً، إنما ازدهار المزارع الطائفية في كنف الوطن سينتج بالتأكيد المشاريع التربوية الخاصة بالطوائف والمذاهب المختلفة، المتضامنة حيناً والمتناحرة غالباً، ولن يكون التعليم بعيداً عن الأنشطة التجارية الربحية، وسيكون اللبناني ضحية للطائفية والرأسمالية في آن معاً.
هل أن الحنين إلى الماضي هو ما طبع مقاربتي بهذه النظرة التشاؤمية، أم أن ما نشهده من هشاشة وسطحية وغياب للأحلام الجميلة هو تأكيد لما أوردت؟