أزمة التضخم قبل الحرب: بروفا لما هو آت غسان ديبه
عندما دقت أجراس موت الكينزيه بُعيد الأزمة المالية لمدينة نيويورك في عام 1975 وانفلات ظاهرة التضخم في البلدان الرأسمالية الغربية، كانت الدولة اللبنانية لا تزال رهينة مستنقع العقل الاقتصادي الكلاسيكي. فعلى الرغم من أن الدولة أعلنت منذ البدء ولاءها للنموذج والفكر الغربيين، إلا أنها لم تقفز على عربة الثورة الكينزيه وعهدها الذهبي الذي اتسم بمعدلات نمو عالية، اقتصاديات مستقرة، توزيع دخل، وأنواع جديدة من علاقات الأجر. لكن عندما انهارت الكينزية ضرب الاقتصاد اللبناني ظواهر موتها: التضخم وعدم الاستقرار المالي، قبل الحرب 1975، اتسم الاقتصاد اللبناني بالخصائص التالية: الإنفصال بين المال والصناعة، بنك مركزي مستقل، ميزانية دولة متوازنة، عملة قوية، انفتاح ومعدلات صرف حرة، سياسة نقدية معادية للتضخم، وتوزيع خاص للقروض.
إن هذه الخصائص المترابطة شكلت الفسحة الاقتصادية التي عمل العملاء الاقتصاديون من خلالها. إن سيطرة القطاع المالي (المتمثل بالبنوك التجارية) كان واضحاً. وكانت سياسة البنك المركزي الذي يلعب دوراً هاماً في كمية المال المتواجد وتوسع الإقراض تدعم مثل تلك السيطرة. إن المؤسسات المالية هي أكثر العملاء الاقتصاديين تأثراً بظاهرة التضخم وتؤيد عملة وطنية قوية. في المقابل أن اقتصاداً ذو أساس صناعي يتسم بمرونة للأجر الحقيقي تكون فيه القطاعات الصناعية المسيطرة مؤيدة أو محايدة تجاه سياسة تضخمية مما يزيد من أرباح المؤسسات الصناعية. وفي حال أدى التضخم إلى تدهور سعر العملة تؤدي السياسة التوسعية إلى زيادة المنافسة الخارجية للبضائع المنتجة محلياً.
برهن جيرالد ابشتاين، الاقتصادي في جامعة ماساشوسس، وجولييت شور من جامعة هارفارد إنه في الدول التي تتمتع بإنفصال القطاعين المالي والصناعي يكون البنك المركزي أكثر استقلالية ويمارس سياسة نقدية انكماشية، أو أكثر مُحافظة من الدول التي تتمتع بقطاعات صناعية ومالية مُندمجة. إن مؤشرين في الاقتصاد اللبناني لما قبل الحرب يؤكدان هذه النظرية أولاً، إن معدل نمو الاقراض انخفض في فترة 1964- 1974 كما قيست بالفرق بين معدل زيادة المطلوبات ومعدل زيادة الموجودات. كما أنه إذا نظرنا إلى إحصائيات زيادة الكتلة النقدية لفترة ما بعد 1964 فنرى أنه باستثناء عام 1968 الذي شهد نمواً غير طبيعي نتيجة حرب 1967. كان معدل نمو الكتلة النقدية السنوي في فترة 1965- 1970، 1.2% مما يشير إلى اتباع سياسة نقدية انكماشية. ماذا يعني هذا؟
إن سياسة نقدية أكثر انفتاحاً لو اتبعها البنك المركزي كانت ستؤدي إلى زيادة معدلات النمو الاقتصادي والدخل القومي من دون أن تؤدي إلى مشاكل في ميزان المدفوعات. ففي لبنان سُجل هبوط في معدلات النمو في الفترة الممتدة من 1966 – 1970 وعلى الرغم من تحركها في بيئة تتسم بفائض في ميزان المدفوعات ومخزون عالي من العملات الصعبة، قررت الدولة أن لا تتدخل وتتبع سياسة توسعية كما كان واضحاً في معدل نمو الكتلة النقدية السنوي. إن السياسة الإنكماشية كانت لها نتائج سلبية على العديد من القطاعات مثل الصناعة، الزراعة، البناء... يقول ابشتاين "إن الذين يُسّيرون البنك المركزي ربما تكون لديهم حساسية مفرطة تجاه التضخم وبالنتيجة فإن السياسة النقدية لن تغطي التجارة وتبادل السلع مما يؤدي إلى معدلات نمو غير مرغوبة اجتماعياً وإلى معدلات بطالة أعلى من المرغوب فيها" في لبنان تدنى معدل نمو التجارة في فترة ما بعد 1964 وهو دليل واضح على إحدى النتائج الاقتصادية لقيام البنك المركزي عام 1964. إن أي سياسة توسعية كانت ستؤدي إلى معدلات أعلى من التضخم مما كان سيثير حفيظة البنوك التجارية وطبقة رأسماليي العقارات، وإن إحجام البنك المركزي عن اتباع هكذا سياسة تؤكد سيطرة هذه القطاعات الاقتصادية على سياساته. في الإطار نفسه لم تفكر الدولة باستخدام السياسة المالية كأداة تجاه الأوضاع الاقتصادية واتسمت الميزانية العامة بالفائض في كل تلك الفترة. فالمعايير الموضوعة على اقتراض الدولة في مصرف سورية ولبنان حوفظ عليها بعد قيام البنك المركزي اللبناني. هذه السياسة كانت لها عدة تأثيرات:
أولاً، عدم وجود دين للدولة في النظام المصرفي مما يجعل الدولة أقل فعالية من مجال السياسة النقدية.
ثانياً، ترك سعر العملة الوطنية في يد النظام المصرفي.
ثالثاً، عدم استعمال ميزانية الدولة في التعامل مع الاوضاع الاقتصادية ومثال ذلك كسلاح في وجه التقلبات الاقتصادية. وكان لهذه التأثيرات دوراً مهماً في تعميق وتمأسس استقلالية البنك المركزي عن الدولة.
إن وجهاً آخراً من استقلالية البنك المركزي هو في علاقاته أو تأثيره على معدلات الأجور. ففي الدول التي فيها حركة عمالية قوية أو تحكمها حكومات عمالية أو ديمقراطية اشتراكية اتسمت بنوكها المركزية بعلاقاتها القوية مع الدولة (على سبيل المثال ايطاليا في السبعينيات) مما أتاح للدولة أن يكون لديها عجز في الخزينة الممول قانونياً من البنك المركزي، وبالتالي يتم تأمين المداخيل والمصاريف التي يُطالب بها العملاء الاقتصاديون المتنافسون ولا سيما الطبقة العاملة.
صدّعت الضغوطات التضخمية التي راوحت معدلاتها 8% سنوياً في فترة 1971-1975 العالم الساحر للأسعار المستقرة. الدولة التي تفاجأت بها استجابت بإتباع سياسات ضيقة الأفق وفي الكثير من الأحيان متضاربة. فكان، ولم يزل، تشييء الذهب يحكم عقل البنك المركزي. وعلى الرغم من أن الذهب لم يلعب دور الذهب - المال كمنظم للأسعار، أصرت الدولة على ابقاء الذهب كاحتياطي بشكل سيكولوجي من دون وجود سياسة واضحة المعالم حول ما يُعتبر مستوى مفيد من الاحتياط. ففي عام 1974 بلغت الموجدات الأجنبية للبنك المركزي 260% من إصدار النقد أكثر بكثير من 50% المفروض من قبل قانون المال، والاقراض. إن الإيمان المطلق بأهمية "ذهب البنك المركزي" في محاربة التضخم أو وقف تدهور سعر العملة، جعل الدولة تقف متفرجة أمام الضغوطات التضخمية في تلك الفترة، وأمام تدهور سعر العملة حالياً.
بالطبع وكما برهنت التطورات اللاحقة وبدء التضخم المتسارع فكل الأوهام المعقودة حول الذهب، كذهب- المال (كمنظم للأسعار ومنظف للاضطرابات القيمية في الاقتصاد) قد تبخرت وجرفت بمكانس التاريخ وجابهت النظرية الكلاسيكية ملاك موتها في لبنان.
إن هذه الفترة التضخمية كان يجب ألا تعتبر كفترة مؤقته أو عابرة. إن هذا القطع مع فترة استقرار الأسعار تطابق مع انهيار اتفاقيات بريثيون - وودز في عام 1971 والتي أتاحت للعالم أكبر فترة تاريخية من الاستقرار في التجارة، والمالية الدولية خصوصاً بعد السنوات العاصفة في العشرينيات والثلاثينيات.
إن هذا الإنهيار أدى إلى ازدياد عدم الإستقرار في البيئة التي يعمل ضمنها الاقتصاد اللبناني. بالإضافة إلى أن انهيار عصر النمو الكينزي في نهاية الستينيات وما رافقه من تضخم وعودة التقلبات الاقتصادية في الاقتصاديات الغربية كان له تأثيرات سلبية على الاقتصاد اللبناني على الرغم من أن دول أوبك الصاعدة في السبعينيات ساعدت على تهيئة هذه العواصف اللاستقرارية.
وأطلق سمير المقدسي على هذه الموجة التضخمية ما أسماه بأهم سياسة للدولة اللبنانية في فترة ما قبل 1973 وهي استقرار الأسعار، عندما قال "كما بينت تجربة الدول الأخرى وبالتأكيد كما بينت الميول التي سيطرت في فترة 1971 -1974 فليس هناك سبب أولي (مبدئي) للإعتقاد بأن العمل الاقتصادي الخاص يؤدي إلى تأمين استقرار مالي على الصعيد المحلي أو العالمي". ويذهب المقدسي إلى تبيان أن العلاقة الإستقرارية بين معدلات الصرف (الدولار) والأسعار المحلية انهارت بعد عام 1971 وأصبحت الأسعار تعتمد على ازدياد الكلفة على الصعيد المحلي، التضخم المستورد وازدياد وتوسع الاقراض المحلي.
إن نهاية عصر استقرار الأسعار التي شكلت منعطفاً أساسياً في التاريخ اللبناني نحو أرضية غير معروفة سابقاً وهي عالم اللإستقرار والالتباس مالي. الجميع استغرب ولكن أزمة 1971-1975 برهنت على كونها "بروفا" لما سيأتي في فترة ما بعد 1984 حيث الانهيار الكامل الذي سيجر الجميع إلى شفير الهاوية.