الحدث: مصطفى العاملي لبنان أمام خياري "التغيير" أو عودة "الحرب"
أما وقد أحيا اللبنانيون الذكرى الـ 40 للحرب الأهلية، فالسؤال اليوم ماذا بعد؟ وهل انتهت هذه الحرب ومفاعيلها على مختلف المستويات الانسانية والاقتصادية والسياسية؟ الجواب الذي يكاد يتوحد حوله الجميع: الحرب مازالت قائمة وبأشكال مختلفة، وأن بعض مظاهرها أخطر بكثير مما كانت عليه يوم اندلاعها في العام 1975، مع أن أسبابها ومسبباتها ضاربة في التاريخ.
فالانقسام السياسي الطائفي والمذهبي بين الأطراف اللبنانية وخصوصاً تلك المتنازعة على السلطة، ورهاناتها وارتهاناتها الخارجية، يؤكد أن جمر الحرب ما زال متأججاً، والوقود متوفر لتجدد اندلاعها في اية لحظة، لا سيما في ظل التطورات التي تشهدها العديد من الدول العربية وسرعة تأثر لبنان فيها، وهذا ما يتجلى بالجماعات الارهابية المنتشرة في السلسلة الشرقية والتي تحاول بشكل شبه دائم فك الحصار المضروب عليها والسيطرة على إحدى المناطق اللبنانية المحاذية للحدود السورية، في محاولة لتأمين التواصل مع المسلحين المتواجدين في منطقة القلمون، وبالتالي ادخال لبنان بشكل مباشر في الأزمة السورية، خصوصاً وأن هناك خلايا نائمة في العديد من المناطق يمكن استخدامها لتفجير الوضع من خلال القيام بأعمال اجرامية على شكل تفجيرات أو اغتيالات سياسية.
ولا تقتصر مخاطر عودة الحرب على هذا الجانب، بل ان انهيار الدولة ومؤسساتها من شأنه ان يساهم أيضاً في دفع اللبنانيين الى الاقتتال مجدداً ما لم يسارع المعنيون الى اعادة بناء الدولة على أسس صحيحة، متجاوزين الأسباب التي أدت الى انهيار وتفكك مؤسساتها وإداراتها، وفي المقدمة التوافق على نظام سياسي جديد على أنقاض النظام القائم حالياً، رغم أنه سقط عملياً، ولكن بعض المستفيدين منه يرفضون تغييره وحتى اصلاحه بشكل جدي، رغم انه ومنذ اعتماده أدخل اللبنانيين في حروب متتالية واستجلبت التدخلات الخارجية على أنواعها ولا يزال. أما الأزمات الاقتصادية والاجتماعية فحدث ولا حرج، والأنكى انها لا تدخل ضمن اهتمامات وأولويات المسؤولين، لا بل هناك إصرار مبرمج من قبلهم على تجاهل مطالب وحقوق الناس وطمسها من خلال اعطاء الأولوية لملفات تتعلق بالصراعات الطائفية والمذهبية والمشاكل الأمنية، التي تمثل اليوم الحيز الأكبر من الاهتمامات، خصوصاً انها قد تطيح بهؤلاء المسؤولين اذا ما خرجت عن السيطرة، وفي هذا الاطار يمكن فهم الأسباب التي تقف خلف استمرار جلسات الحوار الثنائي بين حزب الله وتيار المستقبل، رغم الاتهامات والخلافات القائمة بينهما على خلفية الحرب اليمنية والحملة العسكرية التي تقودها السعودية بالتعاون والتنسيق مع الولايات المتحدة، ضد الشعب اليمني، تحت شعار وقف التمدد الإيراني، مع أن هذه التطورات تزامنت مع اتفاق الإطار الذي توصلت اليه إيران مع أميركا والدول الغربية، حول ملفها النووي الذي سيتم توقيعه بشكل نهائي في حزيران المقبل.
ونظراً لالتحاق لبنان بالخارج، وغياب أي قرار وطني يتعلق بتحديد مصيره ومستقبله، فقد كثرت التساؤلات عن مدى تأثير هذا الاتفاق على لبنان، وشكل خاص على انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وكالعادة انقسم اللبنانيون حول هذا الأمر، فمنهم من رأى ان هذا الاتفاق شكل انتصاراً معنوياً لهم على الأقل، وبالتالي لا بد ان ينعكس ذلك على شخصية الرئيس المقبل، في حين يعتبر الفريق الآخر، أن هذا الاتفاق ما زال حبراً على ورق، ويستبعدون أي تأثير له على الوضع الداخلي في ظل احتدام الخلافات بين إيران والسعودية على خلفية ما يجري في اليمن، وبالتالي فإن الأزمة الرئاسية ما زالت مفتوحة على المجهول وأن الرهان الذي كان يعلقه الكثيرون على تفاهم إيراني – سعودي يمكن أن يساهم في انجاز هذا الاستحقاق قد تلاشى في المدى المنظور على الأقل، في حين أن الدول الخارجية المعنية بالملف اللبناني لها اهتمامات أخرى في هذه المرحلة ترتبط بالتطورات التي تشهدها المنطقة وكيفية إعادة ترتيبها، بما يخدم مصالحها، والخشية أن تكون التسويات التي يمكن أن تحصل على حساب لبنان المنكشف سياسياً والمهدد أمنياً، والمأزوم اقتصادياً واجتماعياً والمتروك إقليمياً ودولياً. مع ان هناك من يؤكد أن حالة الاستقرار النسبي التي ينعم بها لبنان في هذه المرحلة على الرغم من العواصف العاتية التي تضرب عدداً من دول المنطقة.
إذاً، لبنان ما زال على رصيف الانتظار، والحلول لأزماته المتنوعة ما زالت مؤجلة، ريثما ينجلي المشهد الإقليمي الذي ما زال ضبابياً، في ظل الصراعات الدائرة على أكثر من محور، وبالتالي فإن حالة الستاتيكو القائمة منذ فترة ستبقى قائمة، يتخللها استمرار التجاذبات بين القوى السياسية اللبنانية المختلفة في ما بينها على كيفية إعادة بناء السلطة، ولكنها متفقة على ما يبدو على تقاسم ما تبقى من خيرات هذه البلد، وهذا ما تؤشر اليه التعيينات التي حصلت في الآونة الأخيرة، ولا سيما تعيين أعضاء لجنة الرقابة على المصارف وأمين عام مجلس الوزراء وهيئة المنطقة الاقتصادية الخالصة في طرابلس...الخ
ويؤكد مصدر سياسي مطلع أن القوى السياسية المشاركة في الحكومة باتت مقتنعة بأنها محكومة بضرورة التعايش مع الفراغ الرئاسي لفترة من الزمن، قد تطول أو تقصر وفق التطورات الخارجية المحيطة، وأن هذه الحكومة باقية لإدارة شؤون البلاد ولو بالحد الأدنىن لأن لا إمكانية لتغييرها حالياً، وأن اي مغامرة في هذا الإطار قد تدفع الى الفوضى الشاملة وهذا الأمر ليس لمصلحة أحد. وعليه فإن الحكومة ستتجاوز المشاكل والعقبات التي تعترضها وستواصل لعبة تضييع الوقت والحفاظ على الحد الأدنى من التماسك السياسي ومعالجة بعض القضايا اليومية والإدارية، بالتزامن مع استمرار الحوارات الثنائية (حزب الله – المستقبل) و (التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية)، علّ ذلك يساهم في تخفيف الاحتقان الطائفي والمذهبي بانتظار أن يأتي الترياق من العراق، مع أن هناك من يؤكد أن "كثرة الدق بتفك اللّحام" وان احتدام المواجهة بين طهران والرياض قد تؤدي الى تعطيل الحوار بين حزب الله والمستقبل، الذي انعقد للمرة العاشرة وبات من قبيل رفع العتب أو المحافظة على حد أدنى من التواصل، لمنع انفلات الغرائز المذهبية وتحوّلها الى حوادث وإشكالات أمنية في الشارع، أما الحوار الآخر بين "التيار" و "القوات" فإن سقفه الاستحقاق الرئاسي وشعاراته تتجاوز لبنان والمنطقة لتغطية "السموات بالقبوات".
في غضون ذلك لا بد من التأكيد على أهمية الاجراءات والتدابير الاستباقية التي نفذتها وتنفذها القوى الأمنية، رغم إمكانياتها المحدودة وتسليحها المتواضع، في تصديها للجماعات الإرهابية التي تسللت تحت جنح الأزمة السورية، وبتغطية من بعض القوى السياسية اللبنانية، واسقطت مشروعها بإقامة إمارة لها في طرابلس، من خلال اعتقال بعض الرموز المتعاونة معها وإسقاط ظاهرة "قادة المحاور" وما زالت تواصل ملاحقة الذين تواروا عن الأنظار. ويأتي في هذا الإطار مقتل الارهابي أسامة منصور واعتقال الارهابي خالد حبلص الذي اعترف بالعديد من الاعتداءات التي نفذها ضد مراكز ودوريات الجيش في الشمال وعلى دوره في حث الشباب على القتال في سوريا، ولكن خطر هؤلاء لم ينته بعد، فالمسلحون في السلسلة الشرقية يحاولون بشكل شبه يومي الخروج من الشرنقة المحاصرين داخلها والسيطرة على منطقة ولو صغيرة ينطلقون منها للتنكيل بأهالي القرى المجاورة، واذكاء نار الفتنة المذهبية، إضافة الى شن اعتداءات على مراكز الجيش في المنطقة.
ليس من عاقل في لبنان يرى أن هذه الأزمات على تنوعها، هي وليدة الساعة، بل أن لها جذوراً تاريخية تعود الى نشوء النظام السياسي الطائفي، الذي اتسم بإنتاج هذه الأزمات التي غالباً ما تحولت الى حروب صغيرة أو كبيرة، بعد أن تقدمت الاعتبارات الطائفية والمذهبية على الولاء للوطن، وتفوقّت المصالح الخارجية الإقليمية والدولية، على حساب الانتماء الوطني، وتحوّلت الحرية فيه الى فوضى، بعد أن غابت الديمقراطية الحقيقية، نتيجة عدم ممارستها بشكل صحيح، خصوصاً في الانتخابات التي غالباً ما تكون فلكلورية بسبب القوانين التي كانت وما زالت تفصّل على قياس زعماء وأمراء الطوائف، الذين يعرفون أن اي تغيير سيكون بمثابة رصاصة الرحمة على مستقبلهم السياسي.
في الذكرى الأربعين للحرب ليس باستطاعة أي لبناني رسم صورة مشرقة لمستقبل بلده، بل ان الخوف والقلق على المستقبل والمصير ما زال يحاصره من كل الجهات، ولكن الأمل لم يفقد بعد، طالما في لبنان من يستمر في رفض هذا الواقع ويدعو الى تغيير هذه الطبقة السياسية الفاشلة والعاجزة عن إدارة شؤون البلد، وحل أزماته، وهذا يستدعي حوار وطني شامل، ينتج نظاماً سياسياً قابلاً للحياة وقادراً على مواجهة الحرائق والعواصف من حوله.