كلمة: موريس نهرا 13 نيسان واستمرار أسباب الحرب الأهلية
بعد أربعين عاماً على بدء الحرب الأهلية في 13 نيسان 1975، ما زال لبنان يعاني من الأزمات والانقسامات العامودية التي أدت إلى تفجيرها.
وقد شاءت الصدفة أن تكون هذه الأزمات وما تستدعيه من حلول، موضوع ندوة جرت في ذلك اليوم نفسه، في قاعة دير المخلص ـ جون، شارك فيها، السيد حسين الحسيني ـ حركة المحرومين، كريم بقرادوني ـ حزب الكتائب، كاتب هذه السطور ـ الحزب الشيوعي اللبناني، وقدَّم للندوة المحامي جميل جبران. لكن أعمال هذه الندوة لم تصل إلى نهايتها.
فورود خبر حادثة البوسطة في عين الرمانة اضطرنا للإختصار والتوقُف، والعودة سريعاً.
بالطبع لم تكن حادثة البوسطة على بشاعتها سبب اندلاع الحرب، ولعلها شرارتها. فالأجواء، كات مشحونة. والأسباب الأساسية ترتبط ببلوغ أزمة النظام بكل وجوهه الوطنية والسياسية والإجتماعية ذروة جديدة، شملت انعكاساتها معظم الفئات الشعبية. وبرز الرد الشعبي بتكاثر التحركات الاحتجاجية والتظاهرات المطلبية.
وأتى انكشاف الوجه عجز النظام في الوجه الوطني، في تخاذل السلطة إزاء عدوان اسرائيل على مطار بيروت وتدمير عدد كبير من طائرات شركة الشرق الأوسط اللبنانية عام 1968، ثم حيال الخروقات الاسرائيلية شبه اليومية، ودخول مجموعة كومندوس إسرائيلي إلى قلب بيروت واغتيال ثلاثة قادة فلسطينيين (1972)، ليضيف استياءً عارماً وتظاهرات شعبية ضخمة واهتزازاً كبيراً للثقة بسياسات السلطة ونظامها، وسقوط مقولات "لبنان قوي بضعفه" ووهم الضمانات الدولية". لقد أوجدت هذه العوامل رداً شعبياً وسياسياً كبيراً، ترافق مع بروز تكتل سياسي وطني مساند، ومع الدور الفلسطيني المقاوم بعد نكسة 1967. وأدى الترابط بين الجانب الاجتماعي والوطني، الى استقطاب شعبي متزايد يحمل قضايا ومطالب تستدعي بالضرورة اجراء اصلاحات جدية في بنية النظام المأزوم وسياسات سلطته خصوصاً في الميدان الاجتماعي والوطني. ولو تمّ في ذلك الحين اختيار المنحى الإصلاحي الذي تمليه التطورات، لكان أُتيح للبنان إمكانية تجنب الحرب المأساوية، واستمرارها 16 سنة، ولكان اتاح ذلك طمأنة العامل الفلسطيني والحدّ من تجاوزاته وتضخيم دوره. لكن تعقيدات النظام الطائفي وتوازناته، أدت كالعادة إلى تحويل التناقض السياسي الى تناقض طائفي، استخدمته القوى الأكثر طائفية، داخل السلطة وخارجها، متمسكة بالنظام وتقديسه، بكل خلله وعيوبه وعجزه، للتحريض الطائفي والتعبئة التصادمية. فاعتمدت خيار القمع والعنف سبيلاً لمواجهة النهوض الشعبي، بدلاً من الإصلاح.
وقد مارس المخطط الأميركي -ـ الإسرائيلي، دوراً مشجعاً على خيار العنف والحرب، تزامناً مع التحضير لإتفاقات كامب دايفيد مع مصر السادات، وبغرض ضرب عصفورين بحجر واحد، الدور الفلسطيني المقاوم في لبنان، ودور قوى الحركة الوطنية الصاعدة التي تشكل عقبة في طريق جرّ لبنان كحلقة ثانية في مخطط كامب دايفيد. ولا يمكن هنا إغفال دخول اسرائيل المكشوف على خط هذه الحرب، خصوصاً في احتلالها منطقة جنوب الليطاني في عام 1978، وحربها العدوانية على لبنان، وصولاً الى العاصمة بيروت عام 1982، لتحسم الوضع اللبناني في صالحها.
لقد شكلت هذه العوامل مجتمعة، الأسباب الأساسية للحرب. وكان القمع والعنف الدموي الذي سبق انفجارها، وبرز على سبيل المثال، في تدابير الانتقام من المعلمين، وفي سقوط شهداء من عمال معمل غندور المضربين من أجل حقوقهم، ومن مزارعي الدخان في تظاهرتهم في النبطية، وفي اغتيال معروف سعد على رأس تظاهرة صيادي الأسماك في صيدا، مقدمة لها، بل وجهاً من وجوهها.
إن المشكلة الآن هي في بقاء رواسب هذه الحرب وأسبابها. فالعجيبة اللبنانية (لا الأعجوبة) هي في أن أمراء الحرب، ظلّوا هم أو ورثاؤهم، زعماء الطوائف والمذاهب نفسها. وهم زعماء الطبقة السلطوية. ونظامهم الطائفي القائم على المحاصصة والمنتج للإنقسامات، بقي هو، هو.
بينما المسار الطبيعي للأمور في البلدان الأخرى، يأتي بالمنتصرين ويخرج الخاسرون. والسبب هو النظام السياسي الذي يملي تشكيل السلطة من ممثلي طوائف ومذاهب. لذلك يتسلط الزعماء على طوائفهم وعلى الشعب ويستمرون في السلطة بقوانين طائفية، في حالة الحرب وحالة اللاحرب. ويستمر معهم الدوران في دوامة التناقضات والأزمات، وفي نمط الاستقواء بالخارج والمراهنة عليه، سواء في انتخابات رئيس البلاد، أم في تشكيل حكومة، أو في رعاية تسويات سياسية ظرفية، كما جرى في الطائف، والدوحة، وبينهما الرعاية السورية.
هذا ما يجعل لبنان اليوم ودائماً، أمام تحديات وأخطار جدية، تنشأ من الداخل، ومن الصراع في محيطنا المتفجر، ودور تيارات التطرف الديني والإرهاب الوحشي، الذي يخدم نشر "الفوضى الخلاقة" وتفتيت بلدان المنطقة، بغرض بسط الهيمنة الأميركية المديدة، واطلاق يد إسرائيل في المنطقة وتصفية القضية الفلسطينية. فلا يضير مخطط الفوضى والتفتيت أن تصبح الصراعات والنزاعات، بين مذهب أو دين وآخر، بل إن ذلك يصبّ في مصلحته.
إن استمرار الحالة نفسها يظهر أن الطبقة السلطوية لم تتعلم من دروس الحرب المريرة. فالمقاومة الفلسطينية خرجت من لبنان، وكذلك الوجود العسكري السوري، ومنذ مدة ليست قصيرة، بينما الانقسامات المنبثقة من النظام الطائفي على حالها. والعصبيات تجعل المذاهب والطوائف هويات بديلة للهوية الوطنية الجامعة. والوضع الاجتماعي يزداد سوءاً. فالبطالة تتسع خصوصاً في صفوف الشبيبة، والفقر يزداد انتشاراً، والفساد أكثر استشراء، وقضية السكن والمستأجرين مشكلة مزمنة وليس المشروع المعروض الآن حلا لها. والخلل يتنامى بين الأجور وتكاليف المعيشة، إضافة للتراجع الملحوظ في حياة ومعيشة الطبقة الوسطى.
ويأتي الشلل في دور البرلمان الممدد لنفسه. وضعف الحكومة وإنتاجيتها. والشغور المفتوح في موقع رئاسة البلاد، ليكشف مدى اهتراء النظام الطائفي وطبقته السلطوية التي ينتجها وتنتجه. مما يجعل بلدنا مفتوحاً على تحديات جدية وخطيرة، تستدعي دوراً شعبياً ناهضاً لوضعه على سكة الانقاذ والتغيير، ومنع تكرار الحرب... فالحرب الدموية توقفت عام 1990، لكن السلم الأهلي لم يُبنَ.