د. ماري ناصيف – الدبس بين قوى 8 و14 آذار ضاع الوطن والحل بالعودة إلى شعارات 13 آذار 2005
كثرت، في الآونة الأخيرة، المقالات والتعليقات والتصريحات المرتبطة بمرور عشر سنوات على الانقسام العامودي الحاد الذي خرّب لبنان منذ العام 2005، بفعل نشوء تجمعي الثامن والرابع عشر من آذار، وما حملاه من برامج تفتيتية يمكن لها، عن قصد أو عن غير فصد، أن تسهّل مرور المشروع الامبريالي المتجدد والهادف إلى إعادة تنظيم أوضاع المنطقة تحت مسمّى "مشروع الشرق الأوسط الجديد"، الكبير أو الموسّع...
أما التعليقات الكثيرة الصادرة عن قيادة الفريقين، فنحت، كلها، ناحية التبخير والتفخيم... هذا يستفيض في إبراز النجاحات التي أنجزها والانتصارات التي، لولاها، لما بقي لبنان، وذاك يعطي لنفسه أمجاداً أين منها تلك التي حققها الاسكندر المقدوني في فتوحاته الكثيرة. والاثنان معاً يتّهمان بعضهما، عن حق، بالانجرار وراء أجندات خارجية، إقليمية أو دولية أو الاثنين معاً، بينما يحاول كل منهما أن يقنع الشعب اللبناني أنه أب الاستقلال والتحرير والسيادة، بعيداً عن أية وصاية من هنا أو أية أجندة من هناك.
عشر سنوات عجاف عاشها لبنان واللبنانيون. سنوات استقت شعارها من نظرية "فرّق تسد". والتفرقة لها، هنا، عناوين كثيرة، إلا أنه يمكن حصرها بكلمتين لا ثالثة لهما: الطائفية والمذهبية.
ماذا كانت مساوئ هذه السنوات العشر بالنسبة للبنانيين جميعاً؟
وكيف عملت الطبقة المسيطرة لإبقائهم منقسمين على أنفسهم، بينما كان أفرادها - كل أفرادها دون استثناء - يجنون المغانم؟
أولاً، على الصعيد السياسي والأمني، تميّزت هذه السنوات باستفحال الحرب الأهلية مرّة جديدة. حرب لم تترك منطقة إلا وعاثت فيها فساداً، فقتلت وهدّمت وهددت بإحراق الأخضر واليابس، بدءاً من طرابلس وشمالها إلى بيروت وصيدا صعوداً إلى مناطق البقاع الشمالي. وهي اليوم مستمرة بفعل استمرار انعكاس الحرب الدائرة في سوريا على الداخل اللبناني، خاصّة بعد تزايد نشاط الجماعات الإرهابية ، على وقع زيادة حدّة الشحن الطائفي على كافة المستويات، السياسية والاجتماعية والإعلامية... وما يدعو فعلاً إلى التساؤل في هذا المجال هو زيادة انكشاف الدور الذي يقوم به العديد من المسؤولين داخل السلطة وخارجها، من جماعات الثامن والرابع عشر من آذار، في تصاعد حدة التحريض وتأجيج المشاعر المذهبية، في وقت يذهب قسم منهم إلى الحوار الذي انطلق تحت شعار تبريد الأجواء وتحييد لبنان وشعبه عما يجري من حوله، إن في سوريا أو العراق أو بعض الدول الخليجية.
أما على الصعيد الاجتماعي، فاختفت العواصف الطائفية بسحر ساحر. وتوحّد المنقسمون على أنفسهم، المقسّمون للبنانيين والزاجون بهم في أتون التفرقة والتشرذم، مرّات عديدة لمنع القوى الحيّة من تحقيق مكاسب يمكن لها أن تؤثّر سلباً على النظام الطبقي ذي الواجهة الطائفية. فكانت المعركة الطبقية الموحّدة ضد مشروع قانون الانتخاب المبني على النسبية ... وتبعتها المعركة الطبقية في مواجهة دعوات تصحيح أجور العمّال، ولمنع هؤلاء من الاستناد إلى حركة نقابية مناضلة. وكانت، كذلك، المعركة الطبقية الموحّدة ضد سلسلة الرُّتب والرواتب والقوى النقابية الديمقراطية التي حملت هذا المطلب. ولا ننسى المعارك الأخرى التي تدور رحاها في مجال الإيجارات القديمة بهدف تغيير المعالم الطبقية للعاصمة.
وهكذا تستمرّ سياسات "الفرز والضم" ومحاولات توسيع الصلاحيات أو تغيير توزيع الامتيازات والحصص في ثنائيات وثلاثيات متحوّلة، إلا أن الثابت فيها يبقى وحدة الطبقة المهيمنة التي تتجلّى في كل منعطف خطير يمكن له أن يهدد مواقعها ويطيح بنظامها.
إذا ما نظرنا لما جرى ويجري من حولنا. للانتفاضات والثورات التي جرت في بلدان مشابهة والتي لا تزال موضع صراع على التغيير، على الرغم من حجم القوى المضادة التي تجتمع اليوم لإفشال هذا التغيير.
ربما سيقول البعض أننا "كالأقرع الذي يتغنّى بكثافة شعر خالته". ونحن، بدورنا، نذكّر هذا البعض أن الحشود المليونية، التي كان يفاخر بها، لم تمنع القوى الديمقراطية، والشيوعيون في طليعتهم، من مواجهتها ومعها كل ما حملته للبنانيين من بذور الانقسام والتفرقة.
فالشعارات التي حملتها التظاهرة التي انطلقت في 13 آذار 2005 في وسط العاصمة بيروت أينعت ليس فقط في التحركات العمّالية والشبابية، أو في تظاهرات المعلمين والأساتذة والموظفين، بل وفي كل التحركات المطلبية التي لم ولن تتوقّف، لا على الصعيد السياسي ولا على الصعيد الاقتصادي – الاجتماعي... ولم يعد يجدي أصحاب النظام نفعاً الظهور بمظهر المدافع عن قوت الشعب وصحته وسلامة غذائه، عبر الحملة التي أطلقها بعض "أصحاب المعالي" ضد المواد المشعة والأغذية المتسرطنة والأدوية المغشوشة. فهذه الحملة، التي كان يراد من ورائها ذر الرماد في عيون الناس، قد كشفت، بما لم يعد يدع مجالاً للشك، تورط أصحاب النفوذ في تسرّب كل تلك الموبقات إلى وطننا وفي تسميم شعبنا بالتالي؛ لذا، لم يتم تحويل مسؤول واحد عن تلك الجرائم إلى القضاء، بل اكتفى من بيدهم القرار بتغريم بعض المستوردين وأصحاب الشركات والمعامل، بعد أن طلب إليهم التزام أسس سلامة الغذاء... بينما جرى التكتم على الذين كانوا مسؤولين مباشرة ورسمياً عن إدخال المواد المشعة عبر المراكز الحدودية اللبنانية.
إن الحركة السياسية الديمقراطية، ومعها الحركة النقابية والشعبية، مطالبة اليوم بوضع آليات تنفيذ البرنامج الذي صاغته في تظاهرة 13 آذار والذي كان الهدف من ورائه الإضاءة على وجود إمكانية للتغيير الحقيقي، وليس استبدال تحالف طائفي بتحالف طائفي آخر لا يختلف عنه سوى بالاسم.