التيارات الدينية المعاصرة تاريخيتها ومنحنياتها الجديدة د. حسين مروة
تقتصر المداخلة على معالجة التيارات الدينية الإسلامية ذات المنحى السياسي دون التيارات الأخرى ذات المنحى الديني الإيماني الصرف. لذلك رأينا ضرورة الدخول في تاريخية الظاهرة الدينية هذه لرؤيتها في العمق الإسلامي من أجل تحديد المواقف منها بناءً على هذه الرؤية، أي بناءً على مقارنة الحركات والتيارات الدينية المعاصرة بما سلف خلال بعض العصور السابقة. ومن تلك الحركات الحركة الدينية الأصولية التي نهض بها محمد بن تومرت الملقب بالمهدي والمؤسس لدولة الموحّدين في المغرب والأندلس في القرن السادس الهجري، الثاني عشر الميلادي. خصصنا هذه الحركة كونها خرجت من أرض الواقع السياسي وتحولت إلى حركة اجتماعية سياسية تأسست عليها تلك الدولة الموحدية التي كان لها محتوى ديمقراطي ثوري ذلك بالرغم من أن هذه الحركة الدينية الأصولية متشددة لقضية الدين. وفي القرن الثامن عشر نجد حركة دينية إسلامية جديدة تدعو إلى العودة إلى الأصول، هي الآن الحركة الوهابية المعروفة، وفي هذه الحركة محتوى إصلاحياً إيجابياً يرفض الخرافات وينزّه الإسلام عنها، لكن هذه الدعوة اتخذت منحى سياسياً شوه مضمونها الإصلاحي بارتباطها بدولة آل سعود التي تشكلت بعد ذلك كمملكة عربية سعودية تعد الآن رمزاً للأنظمة العربية الرجعية. ويجيء القرن التاسع عشر بحركات وتيارات دينية إسلامية كتعبير عن مقاومة الشعوب العربية الإسلامية للامبريالية العالمية. إن الوعي الاجتماعي لدى هذه الشعوب لم يكن قد تبلور بعد وعياً وطنياً علمانياً أو وعياً قومياً أو وعياً طبقياً، كان لا بد أن يتشكل حين ذاك بشكله التاريخي السائد وهو الوعي الديني، ولكن بعد أن يتقدم القرن التاسع عشر وتتطور الممارسات النضالية العربية ضد سيطرة الخلافة العثمانية الإستبدادية، وضد محاولات الطورانية التركية تتريك العرب وضد الغزو الإمبريالي الآتي من الغرب مع تطور هذه الممارسات، أخذ يتكون الوعي القومي لدى المثقفين العرب المعبرين آنذاك عن مطامح البرجوازية النامية، لكن الوعي القومي لم يكن كافياً ليشكل وعياً مستقلاً عن الوعي الديني. هنا نلحظ ظهور قضية الشعوب العربية إضافة إلى قضية الشعوب الإسلامية في برامج الحركات والتيارات الإسلامية في هذه المرحلة. ومنها نماذج من تفكير معظم الشخصيات المنخرطة في النضال ضمن إطار الحركات الإسلامية الإصلاحية، مثلاً الأفغاني، محمد عبده، الكواكبي، ونلحظ هنا أيضاً تمازجاً في الوعي القومي مع الوعي الديني بالنسبة إلى الشخصيات الإسلامية كان يجري وفق عملية تاريخية، تمتد من أول تاريخ الإسلام حتى عصر الحركات الإسلامية الإصلاحية في القرن التاسع عشر. منذ سيرة النبي وسيرة الخلفاء إلى التوجهات العربية لدى الحركات الإسلامية المشار إليها سابقاً الوهابية، السنوسية، المهدية، السودانية. وصولاً إلى الجزائر حيث شكلت إسلامية الثورة الجزائرية معنى ودلالة من معاني ودلالات عروبته، بحيث لم يكن من فاصل بين الإسلام والعروبة في كينونة الوجه الثوري لحركة الجزائر في كفاحها الوطني المنتصر، ويبلغ بنا السياق التاريخي إلى عصر الحرب العالمية الأولى. ونلحظ هنا تشكل الوعي القومي العربي مستقلاً نوعاً ما عن الوعي الديني، والعوامل الواقعية الفاعلة في هذا الإستقلال، ونجد في هذه المرحلة كثيراً من رجال الدين الإسلاميين يشاركون مشاركة مرموقة في بدايات التكون الكفاحي الوطني، الذي كان الأساس التاريخي لحركة التحرر الوطني العربية. فإن رجال الدين هؤلاء لم تتخذ مشاركتهم في الكفاح الوطني شكل حركة إسلامية بل كانت مشاركة وطنية صرفة. ظهرت خلال هذا السياق التاريخي تيارات إسلامية تدعي هي الأخرى العودة إلى الأصول وتسمي نفسها أصولية، في حين هي تنطلق من مواقف رجعية مناقضة للمواقف الإصلاحية للحركات السابقة وهنا يطرح هذا السؤال: إذا كانت تلك التيارات والحركات والمنظمات الإسلامية أصولية رغم التناقض في مضمونها وتوحهاتها، فكيف يمكن أن يكون الإسلام إسلامين الأصول أصولين؟ الإجابة أن الإسلام واحد والأصول واحدة، لكن الإختلاف والتناقض إنما هو صادر عن منطلقات سياسية وإيديولوجية، وعند التوقف عند منطق الشريعة الإسلامية يكشف أنه في منطق الواقع نفسه منطق التغيير والتطور الدائمين ومن نماذجه تغير أصول المصلحة العامة مع تغيير الظروف الواقعية في عصر النبي وعصر الخلفاء الراشدين ومن جاء بعدهم، هذه النماذج تدل صراحة على إقرار مبدأ التطور في الشريعة، وإن الشريعة تأتي بعهد الإسلام جاهزة كاملة وتضع حكماً جاهزاً لكل حادث ولكل واقعة ولكل حالة تأتي في الأزمنة اللاحقة، هذا مضافاً أن النصوص القرآنية التي هي مرجعنا الأساسي في الشريعة لم تفصح كلها عن مضامينها بشكل قطعي لذلك كانت قابلة للتفسير والتأويل.
بناءً على ذلك، نفهم كيف ظهرت في التاريخ العربي الإسلامي حركات وتيارات دينية من حيث المنحى الاجتماعي والسياسي والإيديولوجي. وندخل عصر الحرب العالمية الثانية ونرى أن ظروف انتصار الديمقراطية العالمية، ولا سيما انتصار الإتحاد السوفيتي، هيأت الجو الدولي الملائم للنهوض الكفاحي التحرري العربي على أسس جديدة. لكن هذا النهوض ما لبث أن اصطدم بمؤامرة إمبريالية خطيرة، أدت إلى إقامة دولة الصهاينة في فلسطين ككابح قوي باسم الإمبريالية لحركة التحرر العربية. غير أن هذه الصدمة هزت في العمق قوى التحرر العربي ونهضت من جديد. ولكن هذه المرة بقيادة البرجوازية الصغيرة. هذه البرجوازية التي رغم إنجازاتها التحررية والاجتماعية، فشلت في إنجاز مهمات الثورة الوطنية الديمقراطية. وجاءت هزيمة 5 حزيران كنتيجة لهذا الفشل، إنهارت على أثرها قيادة البرجوازية الصغيرة مع فقدان القيادة للبديل الثوري. في هذا المناخ السلبي، مناخ الفراغ، أو مناخ الأزمة العميقة لحركة التحرر الوطني وأزمة القيادة في هذه الحركة، أو أزمة البديل الثوري، في هذا المناخ نمت التيارات والحركات الدينية المعاصرة لكي تملاْ الفراغ بأيديولوجيتها وفكرها ومنطلقاتها السياسية. وجدنا تمايزاً بين هذه الحركات والتيارات. فمنها التيارات والحركات الرجعية والظلامية. التيارات السلفية التي يقتصر نشاطها على العمل العسكري، التيارات التي تنطلق من مواقع سياسية وتقدم نفسها كبديل إسلامي "ثوري" في حالة الأزمة المشار إليها. هذه التيارات الأخيرة تطرح أهدافاً تحررية معادية للامبريالية على غرار الأهداف التي كانت تطرحها التيارات والحركات الإسلامية خلال القرن التاسع عشر. ولكن من جهة ثانية تطرح مسائل أخرى يختلف مضمونها عن مضمون ما رأيناه من توجهات تقدمية في السيرة الإسلامية للمسلمين الأوائل. من ذلك مثلاً، مسألة التعارض بين الوحدة القومية والوحدة الإسلامية، في حين أن هذا التعارض لا أصل له في تاريخ السيرة الإسلامية ولا في الحركات والتيارات الإسلامية في العصور الأخيرة. وهي تطرح بالنتيجة مسألة التعارض بين الإسلام والعروبة. ويظهر هنا التساؤل، لماذا تنامت ونشطت هذه التيارات الجديدة في ظروف لبنان بخاصة بعد العدوان الإسرائيلي على لبنان؟ الإجابة تكمن في الطابع السياسي لهذه التيارات الدينية الجديدة التي فيها خطاً تقسيمياً يقوم على إنشاء دولة إسلامية في لبنان. ومن طروحات الحركات والتيارات الجديدة أنها تساوي بين الإمبريالية والإشتراكية انطلاقاً من كونها تعتمد نفسها طرفاً ثالثاً. وهو طرح غريب ، وبالتالي فإن الشيوعيين اللبنانيين يميزون بين المواقف التحررية المعادية للإمبريالية والصهيونية والمناهضة للإحتلال الإسرائيلي، هذه المواقف الظاهرة في مشروع التيارات الدينية المعاصرة وبين شعاراتها السياسية ذات المحتوى الإسلامي والطائفي ونهجها الإيديولوجي المعادي للقومية العربية والإشتراكية والديمقراطية.
إن الشيوعيين اللبنانيين إنما يقررون موقفهم من التيارات الدينية المعاصرة لا على أساس من القضية الدينية الإيمانية بل فقط على أساس قضية التحرر الوطني والتغيير الاجتماعي الثوري وقضية الديمقراطية.