شؤون سياسية: د.ماري ناصيف – الدبس الحركة النقابية الديمقراطية في القطاعين الخاص والعام وتحدّيات إعادة التوحيد
ما أن انتهت الانتخابات النقابية في رابطة أساتذة التعليم الثاوي في لبنان، ومن بعدها انتخابات رابطة أساتذة التعليم المهني، حتى كثرت التحليلات المتجهة، كلها، باتجاه نعي هيئة التنسيق النقابية التي ضربت بفعل استيلاء تحالف مجموعتي الثامن والرابع عشر من آذار – والتيار الوطني الحر وسطهما – على قيادة الرابطتين بما يعني وضع القرار النقابي المستقل "تحت السيطرة".
هذه التحليلات، على الرغم من تنوع مصادرها المتراوحة بين التحالف المستجد لأطراف الطبقة السياسية الحاكمة أو بعض وسائل الاعلام المسموع والمكتوب، تطابقت تقريباً في وصفها لموت الحالة النقابية في القطاع العام، بعد ثلاث سنوات من الكر والفر حول سلسلة الرُّتب والرواتب وأهدافها البعيدة المدى في استعادة دور القطاع العام، ومؤسساته، ووقف الانحدار الذي سيق إليه تحت وطأة مقررات مؤتمرات باريس الثلاثة وشعاري "التعاقد الوظيفي" والخصخصة اللذين شكّلا أولوية الأولويات في تلك المؤتمرات. بل إن بعضها ذهب في تحليله إلى درجة القول بانتهاء دور كل الحركة النقابية في لبنان، مستشهداً من أجل تبرير استنتاجه بما جرى سابقاً من تدجين للاتحاد العمالي العام عبر تفريخ عشرات التنظيمات النقابية التي لا تتعدى الهياكل الفارغة وتوزيعها حصصاً على القوى الطائفية والمذهبية... "وقوموا حتى نعزّي"، كما كان يقول الشهيد كمال جنبلاط، الذي سجلت قيادة الحزب الذي أسسه تحت شعار العمل والعلم شراسة تضاهي – حتى لا نقول تفوق – شراسة كل أحزاب البرجوازية المسيطرة، مجتمعة، في التصدّي للحركة النقابية المستقلة ومحاولة الإطاحة بها.
وتساءلت الدبس ماذا جرى في تلك المعارك النقابية الأخيرة، وهل أن السلطة الممثلة لتحالف رأس المال والميليشيات الطائفية استطاعت فعلاً أن تقضي على الحركة النقابية الديمقراطية غير الخاضعة لسيطرتها؟
لقد مرّت الحركة النقابية، العمّالية على وجه الخصوص، بالكثير من المراحل الصعبة منذ أن أسّس فؤاد الشمالي، في صيف العام 1924، "النقابة العامة لعمّال الدخان في لبنان". وتعرّضت تلك الحركة للقمع المفرط، من قبل سلطات الانتداب، أولاً، ومن ثم من سلطة تحالف الإقطاع والبرجوازية اللبنانية التي سيطرت على البلاد في المرحلة التي تلت الاستقلال مباشرة وحتى أواسط الحرب الأهلية الثانية التي انطلقت في العام 1975؛ فأطلقت النار على التظاهرات وقمعت الإضرابات والتحركات العمالية المختلفة، بدءاً بإضراب عمال الريجي ومعركة قانون العمل في العام 1946 ووصولاً إلى تظاهرة مزارعي التبغ وإضراب عمّال غندور في أوائل سبعينيات القرن العشرين وما ترافق معها من تحركات للمعلمين في التعليم الرسمي والجامعة اللبنانية تحت شعاري حق التنظيم النقابي وحق التفرّغ.
والملاحظ أن تلك الحركة، المتسعة على الدوام، مرّت بطلعات ونزلات عديدة، يعود أهم أسبابها إلى السعي السلطوي الحثيث لتشديد الخناق عليها وتدجين قيادتها وإبقائها فريسة للانقسامات والشرذمة.
وإذا ما نظرنا إلى تجربة "هيئة التنسيق النقابية" – ومنها بالتحديد رابطة أساتذة التعليم الثانوي الرسمي – لوجدنا أنها، وللمرة الأولى في تاريخ العمل النقابي في القطاع العام، انطلقت من تعزيز وحدة النضال بين مكوناتها بغض النظر عن الفروقات الوظيفية وعن الانتماءات الطائفية، على وجه الخصوص، الأمر الذي ساهم في تجييش عشرات الآلاف الذين التفوا حول روابطهم ونقاباتهم ونزلوا إلى الشارع لمدة ثلاث سنوات متتالية في معركة إصلاحية بامتياز، ربطت بين شعار إعادة تنظيم سلسلة الرُّتب والرواتب في القطاع العام وبين تعزيز دور الوظيفة العامة والخدمات الأساسية التي يقدمها القطاع العام.
لذا، لن يكون من السهل على أجهزة الدولة إجهاض هذه التجربة الناجحة التي اخترقت كل الحواجز والضغوط الطائفية، حتى وإن عملت على إزاحة الوجوه الأساسية التي قادتها في المرحلة المنصرمة. كما لن يكون سهلاً على أية قيادة نقابية جديدة تخطي البرنامج الذي وضعته حركة المعلمين والعاملين في إدارات الدولة والقطاع العام أو تجاوز الحركة التي تجسّدت في التظاهرة الكبرى في 24 أيار من العام الماضي والشعارات التي حملتها إلى الشارع... خصوصاً وأن هذه الحركة قد اتسعت لتضمّ العديد من القوى الاجتماعية المتضررة من السياسات الاقتصادية التي تنتهجها الدولة تنفيذاً لاملاءات ممثلي الطغمة المالية داخل السلطة وخارجها، بدءاً بحركة المستأجرين التي تمثّل ما يقارب المائتي ألف عائلة والتي تتجذّر أكثر فأكثر في مواجهة القانون التهجيري الذي أقرّه مجلس النوّاب، لا للدفاع عن حقوق صغار المالكين بل لإعطاء الشركات العقارية، إن تلك التي تأسست بعد نهاية الحرب الأهلية (سوليدير وأخواتها) أم تلك التي استحدثت مؤخّراً، في العاصمة خصوصاً، لتوزيع المنافع على أمراء الطوائف وحيتان المال.
ما هي الآفاق المرتقبة وكيف ننظر إلى المستقبل؟
إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الحركة التاريخية للطبقة العاملة وجماهير الكادحين، بمن فيهم المعلمين والذين يخضعون لرب عمل اسمه الدولة، لقلنا إن الوضع ليس ميؤوساً منه، كما يحاول البعض أن يصوره عن قصد أو عن غير قصد، انطلاقاً من تراجع دور قيادة الاتحاد العمالي العام، من جهة، والمعركة الشرسة التي يقودها رموز أساسيون في السلطة الطبقية، من جهة أخرى، من أجل إفراغ سلسلة الرُّتب والرواتب من مضمونها الطبقي وفي سبيل إعادة الإمساك بخناق الموظفين – والعمال عموماً.
فنتائج الانتخابات النقابية الأخيرة، وإن استطاعت تغيير بعض الوجوه القيادية، إلا أنها لن تستطيع إبعاد هؤلاء عن مجرى الأحداث. إذ لا يجب أن ننسى أن النقابيين المستقلين قد حصلوا على ما نسبته 45 بالمائة من أصوات المندوبين في انتخابات رابطة أساتذة التعليم الثانوي. وهذه النسبة يمكن لها أن تكبر وتتسع في حال لم ينتظر هؤلاء المستقلين للعودة إلى واجهة التحرك عبر تأطير القواعد النقابية على أساس المطالب المحقة المشتركة والخاصة بكل قطاع، وعدم السكوت عن أي انحراف – يميني - قد يحصل في المواجهة المفتوحة مع السلطة وما تمثل ومن تمثل.
يضاف إلى ذلك أن الأوان قد حان لولادة الحركة النقابية الديمقراطية المستقلة التي كنا قد طرحنا في برامجنا، منذ أكثر من عام، ضرورة العمل على إيجادها في القطاع العام، عبر الدعوة، ليس فقط إلى تعديل قانون الموظفين، بل عبر فرض حق التنظيم النقابي لكل العاملين في هذا القطاع، أكانوا في الملاك أم كانوا متعاقدين وأجراء... محددين في الوقت عينه أولوية إطلاق المركز النقابي العمّالي والشعبي الذي يجمع كل المتضررين من الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها لبنان هذه الحركة، التي تشكّل النقابات العمالية والنقابات المستحدثة للعاملين في القطاع العام نواتها الصلبة، لا بد وأن تضم في صفوفها الحركة النسائية المناضلة من أجل المساواة الحقيقية في مجالات العمل والتعلّم وتوحيد الأحوال الشخصية في قانون مدني واحد وخاصة في مجال المشاركة في صنع القرار. كما لا بد أن تضم أيضاً حركة الشباب، إن في التعليم أم داخل سوق العمل، إضافة إلى نقابات المهن الحرّة التي يتوجّب على المنضوين في صفوفها الخلاص من الصيغ الطائفية والمذهبية التي دخلت إليها لتخرّبها.
حركة تشمل العاملين في المدينة والريف، في الصناعة والزراعة والخدمات، وتستند إلى برنامج مطلبي شامل ومتكامل، بدءاً بتطوير الضمانين الاجتماعي والصحي وتعزيز التعليم الرسمي وتطوير القطاعات الاقتصادية المنتجة بما يؤمّن توسيع فرص العمل، للتخفيف خاصة من هجرة العناصر الشابة.
فنجاح الحركة النقابية في تأطير جماهير الشعب اللبناني هو السبيل الوحيد للتغيير.