عزيز اسكندر "القيصر" و"السلطان": المصالح الاقتصادية اولاً!
في ضوء ما يشهده العالم من زلازل وارتدادات، يبدو "القيصر" في موقع النقيض مع "السلطان" في الكثير من الملفات الشائكة، وخصوصاً الملفان السوري والمصري، وهو تناقض لا يقتصر على موقف الرجلين مما يجري في العالم العربي، بل يمتد إلى مناطق يعتبرانها مجالاً حيوياً لدولتيهما، كما هي الحال بالنسبة إلى الموقف من الصراع الأذري - الأرمني والاضطرابات في إقليم شينجيانغ الصيني.
ومع ذلك، فإن "القيصر" و"السلطان" تمكنا خلال لقائهما الأخير في أنقرة من إيجاد نقطة مشتركة يلتقيان عندها: "البيزنس".
ولا يمكن تجاهل الكثير من أوجه الشبه بين بوتين وأردوغان، الشخصيتين المثيريتين للجدل في الكثير من الأحيان، فهما يحكمان دولتين قويتين على الحدود الشرقية لأوروبا، وقد تمكنا خلال حكمهما الذي بدأ منذ بداية الألفية الثالثة من إعادة الاعتبار لدولتيهما على مسرح السياسة الدولية، علاوة على أنهما يمتلكان قاعدة شعبية هائلة مكنتهما من احتواء الاحتجاجات الشعبية التي قامت ضدهما، وأبرزها تظاهرات العام 2011- 2012 في موسكو، وتظاهرات ميدان تقسيم في اسطنبول في العام 2013.
وبالإضافة إلى الخلاف حول المسألة السورية، فإن التناقض بين بوتين وأردوغان يتبدّى بشكل حاد إزاء التطورات في مصر، إذ لم تكن راضية عن الإطاحة بحكم "الإخوان المسلمين" - خصوصاً أن هذه الجماعة جعلت رجب طيب أردوغان يشعر باستعادته الإمبراطورية العثمانية - كما لم يرق لها أن تزدهر العلاقات المصرية - الروسية من خلال تعاون القاهرة مع موسكو، والذي بدأ في الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس عبد الفتاح السيسي لبلاد القياصرة قبيل ترشحه للرئاسة (كان حينها وزيراً للدفاع)، والتي استتبعها بزيارة أخرى غداة انتخابه رئيساً لأكبر دولة عربية.
وعلاوة على نقطتي الخلاف السابقتين، فإنّ ثمة تعارضاً في المصالح بين الروس والأتراك في ما يتعلق بأزمات القوقاز، وخصوصاً الوضع في ناغورنو قره باخ، إذ تقف تركيا إلى جانب الحكومة الأذربيجانية ضد الانفصاليين الأرمن، وهي تتهم روسيا بعدم الضغط على أرمينيا، الجمهورية السوفاتية السابقة، لوقف دعهما للانفصاليين.
أما في الأزمة الأوكرانية، فلم يكن مفاجئاً انتقاد تركيا لضم القرم إلى روسيا، خصوصاً أن شبه الجزيرة، التي باتت جزءاً من الاتحاد الروسي، قريبة جغرافياً وثقافياً من تركيا، إذ لا تبعد سوى ساعة طيران عن اسطنبول ويعيش الكثير من التتار فيها، وهو ما لا يرق لفلاديمير بوتين، الذي من المؤكد أنه حضر إلى أنقرة محمّلاً بقراءات عن التاريخ الدموي بين روسيا القيصرية وتركيا العثمانية في القرن الثامن عشر.
مع ذلك، فإنّ براغماتية "القيصر" و"السلطان"، مدفوعة بالمصلحة المتبادلة، قد دفعتهما إلى غض الطرف عن نقاط خلافية كثيرة خلال اللقاء الأخير، فاختارا عوضاً عن ذلك، التركيز على التقارب الاقتصادي، طالما أن التقارب السياسي دونه عقبات عدّة، مع العلم أن الجانب الاقتصادي يعكس بشكل أو بآخر الخلاف السياسي القائم، وهو ما يمكن رصده بالأرقام حين ندرك أن تركيا تستورد نحو 65 في المائة من احتياجاتها من الغاز من روسيا، في حين أن حجم صادراتها إلى روسيا في تراجع مستمر (وصلت إلى 5.1 مليارات دولار في الأشهر التسعة الأولى من العام 2013، ولكنها انخفضت إلى 4.5 مليارات دولار في الفترة نفسها من العام الحالي).
وفي العموم، فإنّ اللقاء بين بوتين واردوغان أظهر أن الرجلين متفقان تماماً على تجاوز بعض النقاط الخلافية من أجل إدامة العمل المشترك، بما يؤمن للبلدين مكاسب سياسية واقتصادية.
ولعلّ أهم ما في التقارب التركي - الروسي الجديد، أن الصراعات الدولية أصبحت تدار عبر ربط مصالح الأطراف المتخاصمة بمصالح تجارية واقتصادية، بالرغم من الخلافات السياسية الحادة والمستعصية على الحل، والتي يبدو أنها لا تمنع الأطراف من الاستفادة بالعلاقات الاقتصادية المشتركة... ويبقى الانتظار ما إذا كان هذا التقارب الاقتصادي سيكون فاتحة لتقارب سياسي، بما يفضي إلى تغييرات تطال منطقة الشرق الأوسط بأكمله، انطلاقاً من القاعدة القائلة بأن "السياسة اقتصاد مكثف".