مع الحقيقة: سمير دياب كأس الاحتراب المر
ليس هناك من قضية أكبر أو أهم من حق الناس في العيش بحرية وكرامة وفي العيش باستقرار. فالأزمة السياسية وتوتراتها خطيرة جداً، والأزمة الاقتصادية والاجتماعية موضوعة في عهدة مافيات السوق، والفوضى الأمنية آخذة في الانتشار، والتنافر الطائفي والمذهبي غير مسبوق، أما انتخاب رئيس للجمهورية فينتظر إشارة المرور الإقليمية والدولية، وقضية العسكريين المخطوفين متروكة لقضاء هيئة العلماء المسلمين وقدر موفد قطر فيما يتجرع الوطن والجيش والشعب والأهالي الكأس المر، جرعة شهيد وراء شهيد، وذنب هؤلاء الشهداء أنهم ينتمون إلى مؤسسة عسكرية منزوعة من الغطاء السياسي ومن السلاح.
هذه العناوين ليست بجديدة، وإن كان بعضها مستجد إلا أن أشكال معالجتها غير مفاجئ إطلاقاً لنظام سياسي وسلطات متعاقبة لم تعالج يوماً ملفاً له صلة بالقضايا الوطنية. بل بالعكس، كانت هي السبب في تعقيد الملفات وإستنزاف القدرات المادية والبشرية والمعنوية المستمر منذ عقود. وبالتالي، لا يمكن أن يكون أرباب هذا النظام القائم هم رواد الحل، أو مناشدتهم إيجاد حل، أو التعويل على أي منهم في البحث عن نجاح أي مشروع سياسي لو سلمنا بوجود "مشروع" لدى أي طرف يشمل الكيان والوطن والدولة.
نعيش في بلد أولويات القوى السياسية المسيطرة فيه لا تتصل بأولويات رعايا هذا البلد الذين لم يحصلوا بعد على شرف المواطنة في بلدهم. ألوان هذه اللوحة الطوائفية المتنافرة تعكس صورة قاتمة في السياسة المحلية والإقليمية والدولية، كما الخلاف حول العروبة وفلسطين والعلاقة مع سوريا وفرنسا وأميركا وإيران والسعودية وتركيا وقطر والاتجاهات الدينية المختلفة، وحتى الخلاف على المقاومة ضد العدو الإسرائيلي.
البلد يعيش لحظات حرجة جداً في سلمه وأمنه وماله ومؤسساته. ونبضات الناس تدق على وقع كل خبر لملف العسكريين المخطوفين يحمل بسمة أو فرحة بدل أن يحمل نعشاً لشهيد آخر. وعلى وقع أنفاس المستأجرين والمياومين والمعلمين والموظفين والمتعاقدين والمتقاعدين التي أنقطعت من كثرة الركض وراء المطالبة بحقهم في العيش أو السكن بكرامة.
كل ذلك يأتي والنزاعات السلطوية المعلنة والمستترة تشًرعن القائم، وتشًرع الأبواب على الاحتمالات الصعبة كافة. طالما لائحة أولويات السلطة متوقفة عند المصالح الفئوية الطبقية والطائفية الضيقة.
لم يعرف نظامنا يوماً، كما الأنظمة العربية قاطبة بما فيها "الممانعة"، كيفية الاستفادة من قدرات وطاقات شعوبها، ولا استطاعت تثمير تضحياته ومقاومته من أجل الاستقلال الوطني والتحرير. بل بالعكس، حملته بالقوة والقهر والقمع والتسلط على القبول بفكرة التبرير، لكل التحديات الداخلية والخارجية، وعندما تدجّن على الفكرة، كانت خارطة فلسطين تصغر، والشرق الأوسط الإمبريالي الجديد يكبر، ومقاومة الشعوب تتحول من قومية إلى قطرية إلى طائفية ثم مذهبية.. هكذا تآكلت الإنجازات النضالية الوطنية، وتتآكل اليوم الثورات الشعبية العربية وتذبح باسم المصلحة الوطنية أو الدين أو المؤامرة خوفاً من أن لا تشكل نقلة مجتمعية واعية ومتكاملة قادرة على صوغ إرادة الشعوب وفاعليته في ظل أنظمة وطنية ديمقراطية مستقلة.
لقد دفع الشعب اللبناني ومقاومته أثماناً باهظة لتحقيق إنجاز التحرير. وها قد مر عقد ونصف العقد على إنجازه. لكن سلطات ما بعد التحرير هي ذاتها ما قبله التي تعيد إنتاج السياسات ذاتها والانقسامات الطائفية نفسها، باسم المصلحة الوطنية لكن هذه المصلحة غير مرئية، أما المرئي الحقيقي فيتجسد في تمترس أرباب النظام الطائفي خلف قضايا ملَّ الناس من تكرارها وأثبتت فشلها وعقمها وأصبحت عبئاً ثقيلاً على الوطن والمواطن، ومصداقيتهم ستبقى تعادل صفراً مكعباً في معالجة القضايا الوطنية الحيوية وحتى في معالجة الخدمات اليومية.
الوطن مرة جديدة أمام إمتحان خطير. والبدائل الوطنية المطلوبة لن تحملها المخلوقات الفضائية، أو دواعش الفرسان الغابرة. هي موجودة فينا، في أوجاع الناس، في موتهم اليومي بسبب الفقر أو الفساد أو التهميش أو الاستغلال أو البطالة.. موجودة في كل إنسان وطني وديمقراطي حريص على تحرير الدولة والمجتمع من سيطرة قلة برجوازية تبعية وطائفية تغذي الانقسام والموت، يومياً، من دماء وعرق العمال والكادحين ومن ذوي الدخل المحدود.. البديل الوطني الديمقراطي لن يتأتى من الطبقة الحاكمة المأزومة، إنما يتأتى من الطبقة الاجتماعية الموجوعة والمفجوعة – هي طبقة العمال والكادحين وكل المهمشين والفقراء وهذا هو الملعب التاريخي الجذري لليسار الثوري، قبل أن يتجرع شعبنا مرة أخرى رشفة جديدة من رشفات كأس الإحتراب الأهلي المر.