مر الكلام: نديم علاء الدين الاستقلال غير الناجز
لأن الاستقلال عندنا استقلال غير ناجز، فالسيادة منتقصة، والتعدي عليها من قبل الخارج والداخل مستمر منذ العام 43.
لم نستطع إدارة أنفسنا بأنفسنا، ولم نحم حدودنا، منذ خروج الانتداب واعتباره تحريراً واستقلالاً، فإننا لا نزال بلداً مفتوحاً، مشرع الأبواب، لشتى أنواع التدخلات الخارجية، تدخله الجيوش تارة من الغرب وأخرى من الشرق وثالثة من الجنوب، حتى بتنا نحتل الرقم القياسي في العالم بعدد الجيوش التي دخلت بلدنا.
لماذا كل ذلك، وأين المشكلة: العلة تكمن في التأسيس، في الصيغة التي قام عليها النظام، وفي ما تلاها من ممارسة على يد السلطات المتعاقبة.
فالأسس التي قام عليها لبنان، وهي الأسس الطائفية، حالت دون قيام كيان وطني سيد متماسك وحصين، وهي التي أدت الى منع قيام دولة القانون والمؤسسات، وشوهت علاقة المواطن بالدولة والسلطة.
فقد أدت هذه "الصيغة الطائفية"، في ظروف تاريخية معروفة، إلى إقامة كيان، لكنها منعت تحوّلَ هذا الكيان إلى وطن. وجمعت داخل حدوده جماعاتِ ورعايا طوائف، لكنها منعت تحولَ هذه الجماعات إلى مجتمع والرعايا إلى شعب.
ما حصل عندنا ان هذه الصيغة سمحت بإنتاج حكم وسلطة، لكنها منعت قيام دولة على أسس حديثة متطورة، بسبب التقاسم والمحاصصة الطائفيين، وبسبب الصلاحيات التي انيطت بالمؤسسات الدينية، وغلوها في الممارسة حتى أصبحت أقوى من الدولة، الأمر الذي أدى إلى تعذر قيام مؤسسات عصرية، وتعطل آليات الرقابة والمحاسبة، وضرب استقلال الهيئات والمؤسسات الدستورية.
لقد أتاحت هذه الصيغة، في بعض الظروف، استقراراً ووفرت أمناً، لكنها منعت تحوّلَ الاستقرار إلى سلم أهلي راسخ، وتحوّل الأمن المؤقت إلى أمانٍ دائم.
وبما ان تقاسم الطوائف للسلطة يحض دائماً على تحسين المواقع رفعاً للغبن أو دفعاً للخوف. ما جعلنا على مدار عقود في حالة من الحروب المستمرة، نتنقل فيها ما بين الحروب الأهلية الساخنة ذات الطابع الطائفي، والحروب الأهلية الباردة التي كانت تتلطى بصيغ "التعايش والوفاق" الطائفيين.
وبسبب هذا التشظي والقلق والخوف كان الرهان على الخارج دائماً كوسيلة لتحسين أو تغيير أو بناء موازين قوى جديدة في مواجهة الخصم الداخلي، في عملية صراع وتجاذب لا تنتهي.
ولما كان لبنان يقع على خط التجاذب الإقليمي فإنه لم يعرف سيادة حقيقية ناجزة. بل كان "التوازن" الطائفي فيه أقرب إلى تعبير عن توازن القوى الخارجية صاحبة "الحماية" أو النفوذ أو الدعم. وكان كل خلل يصيب ذلك التوازن الخارجي ينعكس مباشرة على الاستقرار الداخلي.
وليس أمر الاستقلال بمختلف في المسائل الاجتماعية والحياتية: فاللبنانيون يشعرون بغربة عن وطنهم فلا يؤمن لهم عيشاً كريماً، ولا مستقبلاً يطمئنون اليه، ما دفعهم الى الهجرة بحثاً عن ملاذ بدل العيش الذليل.
الحاجة الى التغيير لم تعد عصية على الادراك عند الجميع، بمن فيهم أركان الطبقة السياسية الحاكمة الذين اكتشفوا عجزهم عن إدارة البلاد، وعن مسؤوليتهم عن انهيار مؤسسات الدولة، وأخذوا يطلقون أفكاراً حول عقد اجتماعي جديد، أو مؤتمر تأسيسي، أو تفاهم جديد أكبر من اتفاق الدوحة وأقل من اتفاق الطائف.
لكن هذه الدعوات جميعها لا تعدو كونها تفتيشاً عن مخارج داخل الصيغة الطائفية نفسها لتعود من جديد الى الحلقة المفرغة. من هنا تشكل دعوة المؤتمر الوطني للإنقاذ الى إعادة بناء الدولة على أسس المواطنة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية عبر مرحلة انتقالية تقودها هيئة تأسيسية ذات طابع تمثيلي واسع، يتم خلالها اجراء انتخابات نيابية وفق قانون جديد خارج القيد الطائفي على أساس النسبية والدائرة الواحدة، بعدها يتولى المجلس وضع دستور جديد للبلاد ويعاد إنتاج سائر المؤسسات الدستورية. بذلك نكون خطونا خطوة جدية نحو إعادة تأسيس لبنان وطناً للجميع ودولة موحدة حديثة.