من تونس الى سوريا إعادة تنظيم مشروع المواجهة د.خالد حداده
ليست المرة الوحيدة والفريدة في التاريخ، التي تتعرض فيه منطقة كاملة لمراحل صعبة تعيد رسم تكوينها وأطرها. وغالباً ما كان الصراع في هذه المراحل أكثر، توحشاً وإجراماً حصد الآلاف، وأحياناً كما في حروب أوروبا "الدينية" عشرات ومئات الآلاف. وغالباً ما يكون هذا الترسيم الجديد، خاضعاً لموجبات الإنتقال من مرحلة تاريخية (اقتصادياً) إلى مرحلة أخرى.
لا يمكن الإيحاء أن الوضع العربي اليوم، يشبه تماماً تلك المرحلة الأوروبية أو يكرر ما جرى في مناطق أخرى من العالم. من شرق آسيا إلى أميركا الشمالية واللاتينية وهنالك فروقات جدية. أول الفروقات ان الحرب أو الحروب الأوروبية حدثت في إطار تطورات اقتصادية ـ سياسية داخلية شهدت قطعاً بين النظام الجديد (الرأسمالي) والنظام القديم، نظام الإقطاع والبارونات والمحميين من الكنيسة، رغم أن القوى المتصارعة أعطت شكلاً دينياً لهذا الصراع. أما الصراع في منطقتنا، والذي يجد الكثير من مبرراته في الوقائع الداخلية، فإن العوامل الحاسمة فيه هي نتاج المشاريع الدولية والإقليمية وبشكل خاص المشروع الأميركي لإعادة تنظيم سيطرته على المنطقة وثرواتها، عبر إعادة تنظيم المنطقة نفسها....
إن هذه السيطرة تقتضي بالمفهوم الأميركي الخلاص من إرث "الحماقة الفرنسية" المتمثلة بسايكس ـ بيكو الأول، واستبداله بمنطق آخر من التقسيم، لا يقوم على فرضية إنشاء "دول" أو "أشباه دول" بل على منطق الفوضى، والتوحش والصراع بين الأديان والمناطق والقبائل والعشائر، صراع يسوده التوحش وتستطيع الولايات المتحدة تنظيمه (من السماء) ورسم حدوده وأدوار لاعبيه المحليين والإقليميين من أشباه الدول في ممالك الخليج وعائلاتها، الى طموحات أردوغان. ولا بأس في هذا الإطار من الضغط حيناً ودغدغة الأحلام حيناً آخر مع إثارة المخاوف من اللاعب الإقليمي الثالث أي اللاعب الإيراني.
في الظاهر، هذا ما يجري في معظم الدول العربية، من اليمن الى ليبيا إلى العراق وسوريا، وأيضاً لبنان. وفيها جميعاً ما هو مشترك من الطابع المذهبي والعشائري والقبلي للصراعات وبشكل خاص لبروز العامل الديني السلفي كأساس في هذه الصراعات التي أخذت مداها الى حد "التوحش" الكامل ضمن المنطق والممارسات "الداعشية" المتعددة الأسماء..
* * *
وإذا تجاوزنا التحليل الوصفي، لا بد من الإشارة الى أن التناقض بين السائد، أنظمة سياسية واقتصادية، وبين حاجات تطور المنطقة من جهة أخرى، كان قد وصل الى مرحلة أسميناها "حالة ثورية" بغض النظر عن وزن ودور القوى الثورية. هذه الحالة التي تم التعبير عنها بانتفاضات شعبية واسعة، تحت شعارات الحرية والعدالة والكرامة الوطنية. وربما تكون هذه الحالة التي تتراكم في العالم العربي هي ما استدعى وساهم بإنضاج السعي الأميركي لإعادة تنظيم المنطقة، كهجمة ومشروع استباقي يجهض عملية إنضاج هذه الحالة.
من هنا فإن التوصيف العلمي للوضع الراهن، هو الصراع ما بين حاجات تطور المنطقة وطموحات شعوبها بالحرية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية من جهة وبين المشروع الأميركي للسيطرة على المنطقة وثرواتها وإعادة بناء الدور الإسرائيلي فيها، بالإستفادة من حالات التنوع الطائفي والقومي وتحويلها الى حالات صدام تسهل ضرب روحية الإنتفاضات من جهة، وتعيد تنظيم المنطقة من جهة أخرى وفي الطريق الخلاص من أنظمة وقوى لا مكان لها في إطار هذا المشروع.
وللدلالة على ذلك، فإن مسار انتفاضتي تونس ومصر يؤكد عوامل التناقض المشار لها ويؤكد، بأن تفجرها قبل وضع المشروع الأميركي بتفاصيله الحالية موضع التنفيذ، أدى الى نجاة مصر وتونس (حتى الآن) من حالة التوحش والصدامات والإنقاسامات الأهلية التي رعاها المشروع الأميركي في الدول الأخرى، وأجبر الولايات المتحدة وحلفاؤها، على التعاطي بمنطق محاولات التدجين والاحتواء.
من هذه التجارب ، يمكن استنتاج ان وضع المنطقة، سيخضع حكماً وربما لسنوات طويلة لموجبات هذا الصراع. وبالتالي فإن حالة اللااستقرار والحروب المتفرقة والإنقسام والتشتت والتوحش، ليست حالات عابرة، بل هي جزء من مشروع، سيخضع المنطقة وشعوبها لآلام عميقة.
والإستنتاج الثاني، إن مواجهة المشروع التفتيتي، لا يمكن معها تكرار تجارب بسمارك وغاريبالدي، فهذه المحاولات، رغم ايجابياتها كانت قاصرة عن القيام بهذه المهمة التاريخية، ولن نغوص هنا بتقييم متسرع للتجارب الناصرية والبعثية المحققة ولا لمشاريع التقليد التي حاولتها الأحزاب الشيوعية في هذه المرحلة.
الاستنتاج الثالث، هو ضرورة الدفع في كل بلد عربي على حدة وفي الإطار المشترك، لتشكيل أطر ديمقراطية تقدمية، تنطلق من الثقة بقدرة وتجارب وحاجات شعوبنا، لمواجهة هذه المشاريع المعادية لحاضر ومستقبل هذه المنطقة.
الاستنتاج الرابع، هو ان هذه المشاريع، ليست قدراً، رغم خطورتها وإمكانياتها ورغم ضعف المناعة ضدها.
* * *
بهذه الروحية، لا بد من تناول حدثين، جريا الأسبوع الماضي. الأول هو الإنتخابات التونسية، والثاني هو ما تم تناقله عن حديث الوزير وليد المعلم في أثناء العشاء الذي نظمته السفارة السورية في بيروت.
فبالنسبة للحدث التونسي، فإن مسار الإنتخابات يوحي ببعض الإستنتاجات:
الأول منها، هو أن مرحلة مصادرة التحركات الشعبية، وإعطائها للقوى الإسلامية والليبرالية المتحالفة، تعرض لنكسة جديدة تكرس نتائج الإنتخابات النيابية وتؤكد على رفض الشعب التونسي للمسار الإنحرافي عن أهداف الانتفاضة الشعبية والذي أخذته مرحلة حكم حزب النهضة وحلفاؤه.
الثاني، صحيح ان الذي تقدم، هو التحالف الليبرالي المدعوم من قبل بعض أطراف السلطة، التي يحلو للبعض تسميتها بالفلول. ولكن هذه الانتخابات أظهرت أيضاً قدرة اليسار على تشكيل قوة شعبية أساسية يمكن الاستفادة منها لتدعيم أهداف الانتفاضة الشعبية ويمكن توسيعها بالتحالف مع قوى ديمقراطية، لم تشكل جزءاً من معركة حمه الهمامي، ولكن يمكن معها تشكيل قوة شعبية ونقابية ضاغطة، سواء اختارت في الدورة الثانية دعم مرشح أم لم تدعم باتجاه فرض برنامج إصلاحي حقيقي لمصلحة الفئات الشعبية.
أما بالنسبة لحديث الوزير المعلم، فيمكن أيضاً ابداء ملاحظات عديدة:
أولها: ان الخطر المحدق بوحدة سوريا وبوجود كيانها الوطني وبدولتها، والذي يشكله تقاطع المشروع الأميركي مع قوى الإرهاب، يقتضي نظرة أكثر انفتاحاً وأكثر قدرة على توحيد القوى الرافضة لهذين المشروعين والتي يمكن اشراكها في عملية المواجهة. فالمشروع المعادي برهن حتى الآن انه قادر على توحيد كل إمكاناته وحتى لتنظيم خلاف مكوناته. بالمقابل وبصراحة، لا يمكن استنتاج ذات القدرة على التوحيد ولا حتى الحرص على تنظيم الخلاف فيما تسرب عن تصريحات الوزير المعلم.
ثانيهما: ان تطور الأحداث العسكرية في سوريا، ورغم التقدم الكمي الذي يحققه الجيش السوري، فإن مشروع التقسيم الذي يأخذ شكل الشريط الحدودي المثلث الأضلاع من تركيا الى الأردن وفلسطين الى لبنان، لا زال الرهان الأساسي للمشروع الأميركي، التركي، السعودي والإسرائيلي ولا زالت لديه الكثير من عوامل القوة وبالتالي فإن الحاجة أكبر اليوم، لخط آخر من المواجهة ينطلق من حوار سياسي فعلي وليس شكلي مع القوى المعارضة الوطنية (مهما كان وزنها؟) والرافضة لهذا المشروع، والمناضلة من أجل وحدة سوريا دولة وشعباً والتي لم تحمل السلاح في معارضتها للنظام. فعدم حمل السلاح وعدم خوض معركة عسكرية ضد الجيش، يجب تقديره والتعامل الإيجابي معه، وليس كما بدى من تصريح المعلم وكأنه نقطة ضعف لدى هذه القوى. فهل المطلوب هو تهميش هذه المعارضة والحوار مع قوى الإرهاب أو رعاتها؟
ثالثهما: ان ما تسرب من حديث، كان قليل التواضع تجاه حلفاء سوريا والذين يشكلون نقطة قوة في مواجهة المشروع الأميركي وحلفائه وبشكل خاص تجاه روسيا وما تطرحه من مسار للحوار.
ولهذا نرى، ان النظرة لإمكانيات وضرورة الحوار الوطني يجب ان تأخذ أبعاداً أكثر حرصاً وأكثر جدية، لما تشكله من ضرورة في مواجهة مشاريع ضرب وحدة شعب ودولة سوريا والحفاظ على كيانها الوطني.