فلسطين 6 أشهر على الانتفاضة الشبابية معتصم حمادة
مرور ستة أشهر على ولادة الانتفاضة الشبابية في المناطق الفلسطينية المحتلة، علامة فارقة تستحق الوقوف أمامها، نظراً لما تعنيه من خلاصات لا يتوجب تجاهلها، بل تعميقها والاعتماد عليها في مواصلة مقاومة الاحتلال بالأساليب الممكنة.
لم تتحول هذه الانتفاضة حتى الآن إلى «انتفاضة شعبية شاملة» كما دعا لذلك العديد من القوى الوطنية والديمقراطية الفلسطينية، رغم أنها قدمت خلال هذه الفترة أكثر من 200 شهيد، كلهم من الشباب، المتمرد على الواقع السياسي والداعي إلى تغييره. ونعتقد أن الدعوة إلى تطوير الانتفاضة وتحويلها إلى شعبية وشاملة، عند انطلاقتها، شيء، ومواصلة رفع هذا الشعار، بعد مرور ستة أشهر، دون التوقف أمام الأسباب التي تحول دون تطبيقه، شيء آخر، من الخطأ التعامي عنه.
ما زالت هذه الانتفاضة تشق طريقها بالدم، ولم يتم حتى الآن إسنادها بتحركات شعبية وازنة تتقدمها فصائل العمل الوطني على اتجاهاتها السياسية المختلفة ــــ ليس لأن هذه الفصائل لا تملك القرار، بل لأسباب أولها قدرة هذه الفصائل على الحشد، في ظل استنهاض السلطة وحزبها الحاكم (فتح) عن تبني شعارات الانتفاضة والهروب نحو الدعوة إلى «الهبة السلمية»، وتجنب ما تسميه "العنف والفوضى والإرهاب". ثانيها أن الأجهزة الأمنية الفلسطينية تنشط في مناطق نفوذها في إطار التعاون مع سلطات الاحتلال، في إحباط التحركات الشعبية، أياً كانت خلفيتها. وثالثها أن إحجام السلطة، وحالة الانقسام، من العناصر التي تضعف من الإرادة الشعبية في دعم الانتفاضة والانخراط بها.
ولعلَّ تجربة إضراب المعلمين الفلسطينيين تشكل نموذجاً يستحق الوقوف عنده، إذ نلاحظ كيف تعمل الأجهزة، بكل طاقاتها، لكسر إضراب المعلمين بالتهديد والوعيد والاعتقالات العشوائية.
لم تخف السلطة الفلسطينية أنها ما زالت تضع بينها وبين الانتفاضة مسافة غير قصيرة. فهي، على سبيل المثال، ترفض تبني شهداء الانتفاضة من الشباب، وترفض تبني عائلاتهم التي ينسف الاحتلال منازلها، وترفض تبني الأسرى والمعتقلين على خلفية الانخراط في الانتفاضة. يدفعها في ذلك تخوفها غير المشروع، من أن تتهم بمساندة «الإرهاب» وفقاً للمواصفات الأميركية والإسرائيلية، وتنشط بدلاً من ذلك في محاولات غير محدودة لاستجداء مبادرة لاستئناف المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي، إن عن طريق باريس ومبادرتها الغامضة والهابطة والتي تزداد هبوطاً، نزولاً عند طلب الولايات المتحدة وإرضاء لتل أبيب، وإن عن طريق واشنطن، الراعي المنحاز لعملية تفاوضية هدفها التغطية على الاحتلال وإرهابه وابتلاعه للأرض الفلسطينية.
وحتى لا تتحمل السلطة وحدها المسؤولية (علماً أنها تتحمل قسطاً كبيراً من هذه المسؤولية)، يفترض بنا أن نضع الفصائل الناشطة في المقاومة، أمام مسؤوليتها التاريخية. وخاصة أنها لم تنجح حتى الآن، ولم تخط خطوة ملموسة على طريق تنسيق خطواتها اليومية في إسناد الانتفاضة ودعمها، وحمايتها عبر آليات عمل ميدانية، تتجاوز حدود الشعارات المرفوعة، وحدود البرنامج المقدم كأساس لحماية هذه الانتفاضة وتطويرها. الشعار أمر ضروري لتوضيح الموقف اليومي، والبرنامج ضروري أيضاً وأيضاً لتحويل الشعار إلى ممارسة. لكن الضروري أيضاً هو البدء بتفصيل الشعارات والبرامج إلى مهام يومية. ولعل المهمة اليومية الملحة الآن، هي الدفع باتجاه بناء لجان تنسيق في المدينة الواحدة، والقرية الواحدة، والمحافظة الواحدة. ما زالت الحركة الفلسطينية تدعو لبناء القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة ونرى أن التمسك بهذا الشعار من شأنه أن يخدم الانتفاضة لأنه يعني في مضمونه دعوة لتوفير الإجماع الوطني حول هذا الخيار، ودفع القوى المترددة لمغادرة ترددها، وحسم مواقفها، وخياراتها، والتخلي عن الرهانات السياسية التي أثبتت فشلها، والانخراط في برنامج سياسي وطني بديل. فبالإمكان الدخول في الوقت نفسه إلى مهمة بناء القيادة الوطنية الموحدة ميدانياً حيث يمكن استقطاب الناشطين في الشارع بغض النظر عن انتماءاتهم الحزبية. ونعتقد أن قواعد الفصائل، دون استثناء، مؤهلة للاستجابة لمثل هذه التجربة، دون أن تتأثر، بشكل أو بآخر، بقرارات قياداتها المركزية المحكومة بعوامل وتأثيرات لا تقيم لها القواعد الشعبية الوزن نفسه.
ونعتقد أن لجان التنسيق الميدانية، تشكل مساحة نضالية، قادرة على تحريض الشارع، بتلاوينها الاجتماعية المختلفة، لتنظيم تحركات شعبية، قد تكون في بداياتها محدودة، لكنها تتسع تدريجياً مستفيدين من حالة التعبئة التي يعيشها الشارع الفلسطيني وهو يراقب أبناءه الشباب، يجترحون أشكالاً مذهلة من النضال والصدام مع الاحتلال والمستوطنين، وهو يرى في الوقت نفسه توغل سلطات الاحتلال في ارتكابها جرائم القتل بالدم البارد، ومطاردة عوائل الشهداء ونسف منازلهم، والتهويد بأبعادهم من الضفة إلى غزة.
ومما لا شك فيه أن مدينة القدس، ومدينة الخليل، حيث ما زال الاحتلال يمارس دوره بشكل سافر، مقارنة مع باقي المدن، تشكل الميدان الأرحب لتقديم النموذج، فسخونة الصدام مع الاحتلال في هاتين المدينتين مرتفعة مقارنة مع باقي المدن، وهي بإمكانها أن تشكل رافعة نضالية لباقي المدن، وتدفع باتجاه الضغط على الفئات الوسطى، خاصة الطلبة الجامعيين وصغار الموظفين وأصحاب المهن الحرة للانخراط في فعاليات الانتفاضة بالطريقة التي تنسجم مع الظروف والشروط النضالية لكل مدينة وكل مخيم وكل محافظة في الضفة الفلسطينية.
إن مواصلة الرهان على الدم، دون برامج تحول هذا الدم إلى انتصار ميداني ضد الاحتلال والاستيطان، خطيئة وطنية قد لا يسامحنا التاريخ عن ارتكابنا لها.