دخل رأس المال المتوحش الى السلطة عام 1992 متحالفاً مع طبقة سياسية مليشياوية طفيلية جامحة نحو المال السائل، وفي جموحه هذا ارتكز الى غطاء إقليمي مشاركاً في الغنائم والمحاصصة. وبادر الى تجميع أزلامه والمقربين منه في السلطة وفي المراكز الأساسية في الإدارة والمؤسسات العامة والمصالح المشتركة وأبرزها وعلى رأس الهرم مجلس الإنماء والإعمار الذي أضحى منذ ذلك الحين وحتى الآن بمثابة دولة ضمن الدولة يفاوض على القروض يقوم بالدراسات ويضع دفاتر الشروط ويلزم ويشرف على التنفيذ.

كما لجأ هذا التحالف الى تأسيس شركات خاصة تنقل إليها مهمات الدراسات والتنفيذ لما يخطط له في السلطة. وخصخصة كل خدمات القطاع العام، وهنا لا بد من التنويه بأن هذا الأمر لم يطل فئة معينة من السلطة بل كامل تركيبتها وبكامل أطرافها، وكل حسب حجمه وسلطته بإشراف وإدارة العراب الملك. هذا هو محور المحاصصة وتقاسم المنافع الخاصة على  حساب المال العام، مال الشعب.

 هذا هو وبكل بساطة مفهوم الخصخصة والمشاركة عند السلطة السياسية في لبنان.

الحلقة الأولى

 إبداعات السلطة بمعالجة النفايات الصلبة

معالجة النفايات الصلبة في لبنان هي من إحدى المهمات الأساسية لعمل البلديات ويقع على عاتقها تنفيذ هذه الأعمال من جمع وفرز ونقل ومعالجة، لكن السلطة السياسية أخذت المبادرة الخلّاقة وقررت بأن البلديات مؤسسات فاشلة مثل كل القطاع العام لا تستطيع القيام بذلك، وقررت خصخصة هذه الأعمال وتسليمها إلى القطاع الخاص المبدع. ومن المهزلة بمكان أن نعرف كيف تم ذلك؟ وبأي ثمن؟ وبأي شكل؟

أخذ الرئيس رفيق الحريري قراراً بتكليف ابن صيدا البار المقرب جداً منه ميسرة خليل سكر بتأسيس شركة هولدينغ averda    في 8-3-1994 في بيروت تحت رقم 509 يملكها ميسرة سكر وزوجته يمنى الحص وابنه مالك سكر، وفي 18-5-1994 أسست هذه الشركة شركة "سوكلين" يملكها مالك سكر وميسرة سكر وشركة averda  ، ولتوسيع هذه الشبكة أسست شركة أخرى بتاريخ 9-1-1995 تحت رقم 68019 تحولت إلى شركة مساهمة بتاريخ 6-1-1999 باسم "سوكومي" وأصحابها ميسرة سكر وليد شعر ومجموعة سكر للهندسة.

هذه الشبكة العنكبوتية ومن خلفها ضمنت منافعها من خلال  سندات قروض يوقعها السيد سكر في بنك البحر المتوسط. وبهدف تحرير المسرح أمر العراب مجلس الإنماء والإعمار في عام 1993 إلغاء العقد الموقع مع الشركة السعودية "الموارد" لتنظيف النفايات ونقلها من بيروت الى المكبات المعروفة، فبسحر ساحر انتقل هذا العقد الى شركة "سوكلين" وأصبحت المحتكر الوحيد لموضوع النفايات من دون أي اعتراض من الشركة السعودية.

وقع مجلس الإنماء والإعمار في شهر تموز 1994 عقداً رقم 1348 مع شركة "سوكلين" الخاص بجمع النفايات وكنس الشوارع في بيروت، وتوسع لاحقاً ليشمل 224 قرية ومدينة تقع جميعها في محافظة جبل لبنان . ومن ثم وقع العقد رقم 2378 بتاريخ 17-2-1997 مع شركة "سوكومي" الخاص بمعالجة النفايات الصلبة والعقد رقم 2315 بتاريخ 1997 أيضاً مع شركة سوكومي خاص بتجهيز وتشغيل المطمر الصحي الذي تقوم الشركة نفسها بتنفيذه فاكتملت كل عناصر المسرحية في الحلقة الأولى.

الحلقة الثانية

 تقديم  ما يلزم لانجاح المشروع

وبقرار سياسي وضعت بلدية بيروت  بتصرف شركة سوكلين مئات الشاحنات والمستوعبات بقيمة تفوق الـ 60 مليون دولار من دون أي مقابل،  وكذلك وضع بتصرف الشركة أرضاً تبلغ مساحتها 20 ألف متر مربع من العقار رقم 358 في منطقة الكرنتينا المملوكة من بلدية بيروت وأيضاً من دون مقابل. ومن يستطيع مخالفة الأوامر؟!!

هكذا بدأت هذه الشركات عملها وهي لا تلم بأي شيء بموضوع النفايات الصلبة وليست لها أية خبرة أو علاقة لا من قريب أو بعيد بهذا الموضوع ، حيث وقعت العقد بعد أقل من شهرين على تأسيسها ولم تقدم سوى 10 شاحنات و 1500 مستوعب مع بداية العمل واستخدمت نصف عدد عمال النظافة في بلدية بيروت ولكن مسألة تعويض نهاية الخدمة والتقديمات الصحية بقيت على نفقة البلدية!!  

كرّت سبحة العقود مع هذه المجموعة المدللة ومجلس الإنماء والإعمار حتى فاقت 108 ملايين دولار سنوياً ممولة زوراً وبطلاناً من أموال الشعب من الصندوق البلدي المستقل، وتقدر الأموال المسحوبة من هذا الصندوق لمصلحة هذه الشركات بأكثر من 2 مليار دولار بين عامي 1997 و2013 واللافت للنظر ان منها 703 مليون دولار للفترة ما بين 2005 و 2009 و"ما في حدا أشطر من حدا" وأمنيات العراب تحقق من دون نقاش والشاطر يفهم.

كان من المقرر أن تنتهي مدة هذه العقود بعد التمديد عدة مرات في 31-12-2000 ولكن سوكلين وأخواتها ومن  يدعمها أقوى من السلطة وفلسفة الأمور أضحت الى توقيع ملحق رقم 5 للعقود حدد "أنه يمكن أن تمدد هذه العقود الى حين اتخاذ قرار من وزير الداخلية والبلديات بإنهائها". ووزير الداخلية من أهل البيت. مددت بالاستناد إلى هذا الملحق عدة مرات على أن يسدل ستار العقود في10-11-2010 وبعد ذلك مددت ومددت العقود وستمدد تحت أشكال مختلفة.

الحلقة الثالثة

فضيحة الكلفة الفعلية لمعالجة النفايات   

تقدر كل الدراسات والتقارير والعروض أن كلفة هذه العقود تعد من الأعلى في العالم . فكلفة الطن الواحد من النفايات في بيروت وجبل لبنان تزيد عن 155 دولاراً، فيما المتوسط العالمي للكلفة يتراوح ما بين 50 و 75 دولاراً حسب دراسات البنك الدولي. وآخر تقرير للبنك الدولي يحدد بوضوح بأن كلفة الطن الواحد في لبنان تتراوح ما بين الـ 40 و60 دولاراً ، كما أكدت سابقاً دراسات وزارة الشؤون والتنمية الإدارية ووزارة البيئة   بأن الكلفة اقل من 55 دولاراً للطن الواحد.

واذا أخذنا تكلفة بعض البلدان يتبين أن في كندا يكلف الطن 58-75 دولاراً، إيطاليا 16- 78 دولاراً، ايرلندا حوالي 31 دولاراً.

هذه الصورة تبين مقدار النهب والسرقة للمال العام، تبين وجه الخصخصة الحقيقي الذي تطمح إليه السلطة السياسية في لبنان، تبين معدل الربح الخيالي الذي يحققه هذا الأخطبوط المتوحش التي تفوق نسبته أكثر من  100%.

علماً ان سوكلين تجني ارباحاً إضافية بقيمة 28 مليون دولار سنوياً من عملية الفرز والبيع للنفايات مثل البلاستك والأسمدة. ما يعني ان مجموعة سكر تحقق أرباحاً خيالية تفوق بكثير ما حققته الصفقات المشبوهة الأخرى.

وتظهر الوثائق المتداولة حالياً في البرلمان والقضاء ووسائل الإعلام بأن الأرقام أكبر بكثير وأرباح سوكلين وأخواتها الخيالية، سرقة موصوفة لأموال الشعب الساعي وراء لقمة عيشه.

الحلقة الرابعة

المخالفات القانونية في عقود سوكلين وأخواتها

 نذكر منها:

1 – كل هذه العقود وقعت ومددت بالتراضي وهذا مخالف للقانون.

2 – هذه العقود مخالفة للمبادئ الدستورية التي تحذر إجراء امتياز أو احتكار مصلحة ذات منفعة عامة إلّا بموجب قانون.

3 – أموال الصندوق البلدي المستقل تنفق وفق قاعدة أصول صرف المال وهي خاضعة للرقابة المسبقة واللاحقة فكيف ننفق من دون رقابة.

4 – البلديات هي السلطة المختصة والمكلفة بإدارة أعمال النظافة وبالتعاقد إذا لزم الأمر. فإبرام مجلس الإنماء والإعمار عقوداً بالنيابة عن البلديات المعنية مخالفة قانونية فاضحة بحسب استشارة صادرة عن مجلس شورى الدولة.

5 – تطاول مجلس الإنماء والإعمار بإيعاز من رئاسة الحكومة على كل الأصول القانونية على أموال البلديات من خلال قرارات صادرة عن مجلس الوزراء علماً أن القانون نص في المادة 70 من قانون المحاسبة على انه لا يجوز لمجلس الوزراء أن يوافق على عقود نفقة، رفض المراقب التأشير عليها بسبب عدم وجود اعتماد لها،  وأموال البلديات لا يمكن أن تشكل اعتماداً قانونياً لأنها أموال أمانة.

6 – القاعدة الأساسية التي تحكم أموال الصندوق البلدي المستقل هي ما تضمنته صراحة المادة 87 من قانون البلديات،  باعتبار أن أموال هذا الصندوق أمانة تعود إلى جميع البلديات وليست لبعض منها وملك لها وليست واردات عامة للدولة. فالحكومة ارتكبت ولا تزال مخالفات فاضحة في هذا المجال اذ وضعت يدها على أموال البلديات وسددت أكلاف عقود سوكلين وأخواتها والشركة المشرفة من دون موافقة صاحب العلاقة البلديات.

7 – ديوان المحاسبة رأى في تقريره رقم 1/99 عام 1999 أن عقود هذه الشركات باطلة بطلاناً مطلقاً وبالتالي يحظر على أي جهة رسمية ترتيب أي أثر قانوني عليها.

8 – شركة سوكلين تستخدم ما يفوق عن ألفي عامل أجنبي ولا تسجلهم في الضمان الاجتماعي تطبيقاً للمادة التاسعة من قانون الضمان. وتتهرب سوكلين من دفع 3.5 مليار ليرة لبنانية كمستحقات للضمان الاجتماعي عن هذا العدد وضمن الحد الأدنى للأجور على الأقل.