شؤون عربية ودولية العرب في الطبق التركي والإسرائيلي وليد نسيب الياس
الخوض في دراسة العلاقات التركية - الإسرائيلية التي بدأت منذ العام 1949، بعد اعتراف تركيا بدولة الاحتلال في فلسطين، يؤدي الى نتيجة واحدة تتمثل بالتطلعات التوسعية لكلا البلدين والتي تتعرض لأمن الدول العربية المجاورة وسيادتها وتهدد بتغيير خرائطها. وتتقاطع رغبتهما في القضاء على الدور الإيراني الفاعل في المنطقة، والذي يحظى برعاية روسية وصينية مباشرة وغير مباشرة، أو على الأقلّ تقليصه. كما ان دولتي الاحتلال الوحيدتين في منطقتنا واللتين تحتلان وتغتصبان الأرض في فلسطين وشمال قبرص، تخططان منذ عقد الخمسينيات الى قلب موازين القوى عبر التحالف الاستراتيجي القائم بينهما في مختلف المجالات العسكرية والاقتصادية والسياسية والمخابراتية.
وبالرغم من ظاهرية "انتكاس" العلاقات الإسرائيلية - التركية، بعد حادثة سفينة مرمرة في العام 2010، فإن العلاقات التجارية بين تركيا وإسرائيل لم تتأثر بتاتاً، لا بل ارتفع حجم التبادل الاقتصادي بنسبة 19% ووصل الى 6 مليارات دولار. وتقوم العديد من شركات الإنشاءات التركية بتنفيذ مشاريع في اسرائيل. وبما ان الدبلوماسية الاقتصادية هي المعيار الرئيس لتوثيق العلاقات بين الدول، فإن نتائج اللقاءات العديدة التي جرت مؤخراً بين الموساد ومساعد وزير خارجية تركيا في سويسرا ستؤدي الى تسوية كاملة لأسباب معلنة وهي: موافقة أنقرة على مرور أنبوب الغاز الطبيعي من اسرائيل الى تركيا، وموافقة إسرائيل على بيع الغاز لتركيا، وقبول تركيا بتقييد أنشطة حماس على الأراضي التركية، وعدم السماح لها بالقيام "بأنشطة ارهابية" حسب رأيهما، وإعادة السفراء بين الدولتين، وإلغاء الدعاوى ضد جنود جيش الاحتلال الاسرائيلي بعد حادثة مرمرة التي أسفرت عن مقتل عشرة أتراك. أما الأسباب الخفية فتتمثل باستمرار ضغط اللوبي اليهودي الفاعل في القسطنطينية (اسطنبول) من أجل علاقات ثنائية مستقرة تستند الى تبني الأهداف والمخططات الأميركية في دول الشرق الأوسط وشرق المتوسط، وارتباطها بالقراءة الاسرائيلية لآخر المستجدات في الخارطة الإقليمية، فإسرائيل تعلم جيداً انها وتركيا تحت مظلة الدور الأميركي والأطلسي الذي سيوكل اليهما - آجلاً ام عاجلاً- دوراً عسكرياً هاماً على صعيد بلورة حدود خارطة الدول الجديدة التي قد تتمخض كنتيجة حسابية للحرب الدائرة رحاها في سوريا بين القطبين العالمين الأميركي والروسي - الصيني.
أخطار العلاقات التركية الإسرائيلية
في ظل اختلاط موازين القوى واستمرار الحروب المشتعلة في سوريا والعراق واليمن، والأعمال الارهابية في لبنان ومصر، تريد اسرائيل وتركيا ان تكون الدول العربية برمتها في طبقهما، وبسط سيطرتهما الاقليمية التي تحظى برعاية أميركية وأطلسية مباشرة، وتتقاطع مع مشروع الشرق الأوسط الجديد وإعادة ترسيم حدود الدول العربية، ولا سيما العراق وسوريا ولبنان وفلسطين، في محاربة المدّ الروسي والصيني وتقليصه في دول الشرق الأوسط، ولا سيما في إيران وسوريا والعراق ولبنان ومصر والجزائر.
ومما لا شك فيه ان أخطار العلاقات التركية - الاسرائيلية، التي تدور في الفلك الغربي، أدّت الى زيادة التواجد الأميركي والحلف الاطلسي في أراضيهما، ولا يجب ان نغض الطرف بتاتاً عن العمق التاريخي للعلاقات الثنائية التي توطدت في عام 1952 وتبادل السفراء بينهما، وتوثيق علاقتهما بالغرب عبر انضمام تركيا الى الحلف الاطلسي في عام 1952 ولاحقاً الى حلف بغداد، الى جانب بريطانيا وإيران "الشاه" وباكستان والعراق، ورغبتها في السيطرة على المنطقة ومحاولتهما تطويق المدّ العربي، مما ساهم في حينه في تطوير العلاقات التركية - الاسرائيلية - الإيرانية عبر تنسيق جهودها الأمنية والاستخبارتية للتصدي لما يسمى للخطر الشيوعي والبعثي الذي برز آنذاك في سوريا والعراق.
أما في عقد السبعينيات، فقد زودت اسرائيل تركيا بالسلاح الذي استخدمت جزءاً منه في احتلال الأتراك للجزء الشمالي من قبرص في العام 1974. واستمرت علاقاتهما بالتطور في عقد التسعينيات حيث تمّ التوقيع في العام 1993 على مذكرة تفاهم وتعاون اقتصادي مشترك، بالتنسيق مع الولايات المتحدة الأميركية. وبالرغم من ازياد النفوذ الاسلامي في تركيا إبان حكم نجم الدين أربكان عام 1996، استمر توطيد العلاقات الثنائية باشراف الجيش التركي. وبعد وصول أردوغان الى الحكم في عام 2002 لم يطرأ اي تغيير سلبي، بل تعززت العلاقات حتى حادث مرمرة، حيث أصيبت "بنكسة" ظاهرية. ومؤخراً، بدأ الغزل مجدداً بين الدولتين بغية إعادة إحياء التقارب الوثيق بينهما بسبب ما تفرضه الضرورات الجيوبوليتيكية والصراع الدائر في سوريا والعراق، وخسارة تركيا سياسة صفر مشاكل مع دول الجوار. فاتفقت الدولتان على بذل المزيد من الجهود المشتركة للسيطرة على المنطقة العربية، ولعب دور قذر واضح المعالم في أوحال الأزمتين السورية والعراقية والتي قد تطال لبنان.
ولم يأت الغزل الاسرائيلي - التركي فجأة من العدم ومن دون وجود أهداف ومبررات لها، بل كان نتيجة ارتباط الدولتين بالوضع الاقليمي غير المستقر، بالإضافة الى ان العلاقات بين الدولتين تندرج ضمن السياسية الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، كإمكانية استفادة تركيا من الخبرة الأمنية الاسرائيلية في محاربة حزب العمال الكردستاني، والخلافات المشتركة بين تركيا وسوريا حول الحدود واستيلاء تركيا على لواء اسكندرون، والخلاف حول توزيع مياه الفرات، واحتلال اسرائيل لهضبة الجولان، ودعم سوريا للمقاومة في لبنان وفلسطين...
ورأت تركيا ان مساهمة اسرائيل في تحديث قواتها المسلحة وتعاونهما المشترك سيعزز دورها اقليمياً ولاسيما بعد تحسن اقتصادها بعد العام 2002، مما يمكنها بالتعاون مع اسرائيل وأميركا من مواجهة "الارهاب"، المتمثل، حسب توصيفها، بالمقاومتين اللبنانية والفلسطينية وحزب العمال الكردستاني ومؤخراً الحزب الكردستاني السوري.
أما اسرائيل التي تعتبر سوريا عدوتها الرئيسة، فتسعى عبر تحالفها مع تركيا الى الضغط على سوريا عسكرياً ووضعها بين فكي الكماشة الاسرائيلية والتركية. ونجحت اسرائيل حتى اللحظة في ممارسة الضغط العسكري على سوريا من خلال وجودها الاستخبارتي في تركيا وجمعها لمعلومات عن المنشآت العسكرية والاقتصادية الحساسة في سوريا. ومن الواضح انه سيتم استغلال تلك المعلومات لصالح اسرائيل وتركيا في حالة نشوب حرب ضد سوريا.
على الدول العربية التي لا تزال في موقع التبعية، ألا تلعب بالنار مجدداً عبر توثيق علاقاتها العسكرية مع تركيا وإسرائيل، كما فعلت السعودية بتعاونها العسكري مع تركيا، وان تقرأ بتمعن أحد شروط التعاون العسكري بين اسرائيل وتركيا الذي ينص على ان يشترك جيشا البلدين في الحروب التي قد تحدث بين واحدة ودولة أخرى. فتكامل الدور الاسرائيلي والتركي - الأميركي يتمثل في إقامة مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي يعيد رسم خريطة المنطقة من جديد ليمهد للدخول الاسرائيلي هذه المرة عبر بوابة الباب الاردوغاني الاسلامجي.