كلمة: عروبة الحاكم وعروبة الشعب موريس نهرا
مع صدور قرار سلطة المملكة العربية السعودية بإلغاء هبة الثلاثة مليارات لتسليح الجيش اللبناني، وكذلك هبة المليار دولار لدعم القوى الأمنية، ثم التلويح بطرد عشرات ألوف اللبنانيين العاملين في السعودية والخليج، تعالى الصخب والضجيج السياسي والإعلامي في لبنان، مترافقاً مع حملة سياسية تنطلق من اعتبار ان العروبة تتمثل في دور السعودية، وتملي التماثل التام مع موقفها والولاء لها.
وإذا ما كان على لبنان كبلد عربي الأخذ بالاعتبار مصلحته مع إخوانه العرب، ومراعاة مصالح اللبنانيين، إلا انه لا يمكنه التخلي عن إرادته الوطنية، وحرصه على وحدة الشعب بكل مكوناته، وعن كرامته الوطنية.
والعروبة في السياق المذكور، ليست مفهوماً خاوياً منفصلاً عن الواقع الشعبي والتاريخي، لتصبح تابعة لأهواء ومصالح زعيم أو سلطة. بل هي انتماء وهوية ترتبط بوجدان الشعب ومشاعره. تشكلت في عملية تفاعل تاريخية ثقافية وحضارية بالمعنى الواسع. وهذا المضمون للعروبة يشمل العرب جميعاً على اختلاف أديانهم ومذاهبهم ومشاربهم. فالعروبة ليست محصورة بدين أو مذهب معين، ولا يمكن لبعض التباينات وحتى التناقضات في المفاهيم والتفسيرات الدينية والمذهبية، ان تجرّد هذه المجموعة أو تلك من عروبتها. فمصالح الحاكم والولاء له لا يمكن ان تكون مقياساً للعروبة، بل على العكس، فإن عروبة سياسته ومواقفه تقاس بقدر توافقها مع المصالح الأساسية للشعوب العربية. فالعروبة هي عروبة الشعوب وليس العكس. ومصالح الشعوب العربية في التحرر والتقدم والمصير المشترك، هي ما تقتضيه العروبة.
لقد قام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، بدور استنهاضي تحرري لشعب مصر وللجماهير العربية، فحمل في خطه السياسي ما تطمح اليه شعوبنا العربية. ووقف في وجه المخطط الأميركي الذي رمى تحت عنوان ملء الفراغ، الى احلال الهيمنة الأميركية على المنطقة، بديلاً لهيمنة الاستعمار البريطاني والفرنسي، بعد فشل العدوان الثلاثي عام 1956. فهل كان موقف المملكة السعودية وقتئذٍ المناهض لسياسة عبد الناصر عروبياً؟
إن العروبة اليوم هي باعتماد نهج يحقق المطامح التاريخية لشعوبنا العربية في التحرر الوطني والاجتماعي والتكامل العربي، وفي امتلاك الإرادة العربية واستقلال منطقتنا، وعدم إبقائها في حالة الضعف والضعضعة والفراغ، الذي يجعلها ساحة لصراعات دولية واقليمية ومحلية، تتيح للمتصارعين، الهيمنة عليها ونشر الدمار والمآسي فيها، وصولاً الى تفتيتها على أساس ديني ومذهبي واتني وتقاسمها. ألا تخدم حالة التنازع والحروب المحلية التي تُخاض نيابة عن الدول الخارجية، ومخططات التحالف الأميركي - الصهيوني، لتصبح اسرائيل طليقة اليدين في مواصلتها قضم ارض فلسطين، وممارسة الارهاب الوحشي ضد شبابها وشاباتها ومناضليها وهدم منازلهم وتشريدهم؟ أوليست تغذية ودعم تنظيمات الارهاب والتطرف الديني والمذهبي، لاستبدال الصراع العربي الصهيوني بجعله على أساس مذهبي، أكبر خدمة لاسرائيل لتصبح الدولة الأقوى، وتستكمل بناء دولتها الدينية ليهود العالم؟
ألا تشوه هذه السياسات الداعمة للتطرف الديني والمذهبي، ولإلغاء الآخر، صورة العرب وحضارتهم وتاريخهم، وتؤدي الى تحطيم الروابط التاريخية المشتركة التي تجمع بينهم؟
من نافل القول إن الصراع الجاري في منطقتنا العربية، يُشكل فرصة تستثير شهية ومطامع اي طرف دولي أو اقليمي قادر في ان يكون له مواقع ونفوذ فيها، لكن السبب الأساسي في ذلك يعود للوضع العربي نفسه. فسلطات الدول العربية، ممالك وامارات وجمهوريات، هي المسؤولة عن هذا الانحدار والوصول الى الفراغ.. والمعروف ان المجتمعات كما الطبيعة لا تعرف الفراغ. فالدولة الوطنية التي نشأت في ظل السيطرة الخارجية أو بعدها، لم تضع أمامها أهدافاً ومهاماً وطنية نهضوية وتحديثية تلبي مصالح شعبها، محلياً وعلى الصعيد العربي، فأبقت على الوضع الموروث من العهود الماضية، مستفيدة من حالة الانقسام والفرز الديني والمذهبي والاتني، والتعاطي مع مجتمعها على أساس أقليات وأكثريات طائفية ومذهبية، لتضمن بذلك استمرار حكمها الذي اتّسم بطابع القمع والتسلط وضرب الديمقراطية وتبديد الثروات.
وبذلك وفي غياب الدولة الديمقراطية العلمانية التي تساوي بين أبنائها في المواطنة، وتوفر لهم حرية الفكر والمعتقد إضافة الى التعليم والمعرفة، بقيت رواسب القرون الماضية حاضرة في واقع المجتمع، وبمثابة ألغام موقوتة قابلة للاستخدام تبعاً لحاجات المخططات الخارجية العدائية والمصالح الطبقية المسيطرة داخلياً.
وازاء كل ذلك، وما نراه اليوم من أحداث وتفشي لظاهرات الصراع والارهاب والاجرام، ليس من الصواب التلطي الانشائي بالعروبة، للسكوت عمن يتنكرون لها ويتآمرون عليها. فقضية فلسطين التي يجمع العرب بأنها قضيتهم الاولى، هي المعيار الاول اليوم لعروبة موقف اي سلطة في بلد عربي. واذا بدا للموقف الإيراني فلسطينياً وعربياً، حجم وتأثير كبيرين، واهداف أخرى، فذلك يعود لغياب الموقف العربي ودوره في حمل لواء القضية الفلسطينية والعربية. ألم يرى كثيرون اثناء عدوان اسرائيل على لبنان عام 2006، ان موقف تشافيز، الرئيس الفنيزولي الراحل، في تضامنه الحازم مع شعبنا ومقاومتنا، هو الأكثر عروبة من معظم البلدان العربية الصامتة او المتواطئة مع قوى العدوان؟ وكذلك الأمر نفسه عندما أتى وزير خارجية كوبا السابق مالميركا، خارقاً الحصار والقصف الاسرائيلي الوحشي لبيروت، تعبيراً عن تضامن كوبا وحركة بلدان عدم الانحياز التي كان يرأسها فيديل كاسترو، مع شعبنا اللبناني والفلسطيني.
إن مصداقية عروبة الموقف، لا تتعلق بالجنسية العربية لهذا الحاكم أو ذاك، بل بمدى تجسيدها مصالح الشعوب العربية وتحقيق آمالها في الحرية والكرامة والعيش والتقدم، وتحرير ارضها وثرواتها من براثن السيطرة والنهب الخارجي، لوضعها في مصلحة تحقيق تنمية وتكامل عربي، يؤدي الى توفير مقومات نهوض عربي تحرري ودور عربي مستقل وفاعل.