الحدث: مصطفى العاملي الاستحقاق الرئاسي على نار التسويات الإقليمية ولعبة الشارع المذهبية ليست مضمونة العواقب
كما كان متوقعاً مرت الجلسة النيابية الـ 36 المخصصة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية كسابقاتها من دون نتيجة فعلية، وبقي الفراغ المستمر منذ أكثر من سنتين في قصر بعبدا قائماً، والمشهد قد يتكرر مراراً طالما أن الكلمة الفصل في هذا الاستحقاق ليست للقوى السياسية اللبنانية، وطالما أن المجلس النيابي الممدد لنفسه مرتين ليس هو من يختار رئيس البلاد، بل يقتصر دوره على إنزال ورقة تحمل اسم من وقع الاختيار الإقليمي أو الدولي عليه.
ولعلّ المفارقة التي تنفرد بها اللعبة السياسية في لبنان تمثلت في امتناع المرشحين الرئيسيين لرئاسة الجمهورية، أي العماد ميشال عون والنائب سليمان فرنجية، عن حضور الجلسة النيابية التي تميزت من حيث الشكل بحضور رئيس تيار المستقبل سعد الحريري مع عدد إضافي من نواب 14 آذار، ولكنه غير كاف لتأمين النصاب، وبالتالي فإن ما يحصل على هذا الصعيد مجرد فلكلور سمج، رغم حساسية هذا الملف وتأثيره على الوضع في البلد ككل.
وساهمت عودة الرئيس الحريري والمواقف التي أطلقها في مهرجان "البيال" واستتبعت بسلسلة تحركات اعتبرت استفزازية للطرف الآخر، في تعقيد الملف الرئاسي بدل حلحلته، وخصوصاً انها اقترنت بسلسلة إجراءات مفاجئة من قبل السعودية، تمثلت في وقف الهبة للجيش وللقوى الأمنية اللبنانية، والطلب الى الرعايا الخليجيين مغادرة لبنان فوراً والتلويح بطرد اللبنانيين من الخليج وسحب الودائع وما الى ذلك من تدابير، يبدو أنه جرى التراجع عنها تحت وطأة ضغوط خارجية مورست على الرياض التي رفعت السقف ضد لبنان بشكل غير مسبوق من دون أن يكون هناك عملياً ما يستدعي ذلك، وخصوصاً أن انتقادات حزب الله للسعودية ليست جديدة، بل هي بدأت بعد إعلانها "عاصفة الحزم" في اليمن، أما تصويت وزير الخارجية جبران باسيل في اجتماع مجلس وزراء الخارجية العرب ومنظمة المؤتمر الإسلامي استناداً الى ما يسمى بسياسة النأي بالنفس، فلا يتطلب ذلك مثل هذا التصعيد السياسي، أما بشأن الإجماع العربي فهذا شأن آخر يتطلب تمحيصاً لمعنى هذا المصطلح، بعد أن اختلطت الأمور وباتت كل دولة تفسر العروبة كما تشاء.
مصادر دبلوماسية أكدت أن عودة الحريري كانت تهدف الى ممارسة الضغط اللازم لفرض مرشحه، أي النائب سليمان فرنجية، رئيساً للجمهورية مستخدماً إمكاناته المحلية والخارجية لتحقيق ذلك، إلا أن موازين القوى السياسية اللبنانية لم تساعده على ذلك، وخصوصاً أنه ليس من الوارد لدى أي فريق سياسي تسهيل وصول مرشح الطرف الآخر، وإن كان المرشحان من ضمن قوى الثامن من آذار.
وترى هذه المصادر أن القيادة السعودية دفعت الأمور في الأيام الماضية الى ذروة التصعيد علّها بذلك تحصل على مكاسب سياسية في لبنان، بعد أن تعثرت خططها بشأن اليمن وسوريا بشكل خاص، ولكنها أدركت بعد أيام من التوتير السياسي والتهويل الاقتصادي أن تركيبة لبنان الطائفية والمذهبية لا تسمح لأي كان بالسيطرة الكاملة عليه، وهذا ما تبين من خلال عدم قدرة الحكومة على تقديم اعتذار للمملكة على خطأ لم يرتكب أساساً، وهناك معلومات تؤكد أن القيادة السعودية هي من بادرت الى ترطيب الأجواء وتخفيف حدة الخطاب العقابي ضد لبنان، وإن كانت حتى الآن لم تعط موافقتها على استقبال الوفد الحكومي الذي سيزور الرياض لتوضيح الموقف اللبناني ولتأكيد حرص لبنان الرسمي على أفضل العلاقات معها، وهناك معلومات يجري تسريبها على أن الوفد اللبناني سيكون برئاسة الرئيس نبيه بري ويضم الرئيسين سلام والحريري وأن الترتيبات بدأت لانجاح الزيارة.
ليس جديداً القول إن ليس بالإمكان تحقيق خرق جدي في الاستحقاق الرئاسي من دون توافق سياسي داخلي يوفره التوافق الإقليمي والدولي حيال هذا الاستحقاق، وهذا الأمر يلزمه اليوم توافق إيراني – سعودي غير متوفر حالياً، لذلك فإن الفراغ الرئاسي سيطول في قصر بعبدا مع ما يستتبع ذلك من استمرار تعطيل لمؤسسات الدولة الدستورية، ومن ارتفاع المخاوف لدى شريحة طائفية من توجه لاستهدافها من خلال هذا الموقع، وكان كافياً أن يتم نقل موظفة فئة ثالثة في إحدى الوزارات لإحداث استنفار طائفي، قد يكون مبرراً، في ظل الممارسات الطائفية والمذهبية لبقية الأطراف.
السباق كان في الأيام الماضية على أشده بين اشتعال نار الفتنة المذهبية ومساعي البعض لإخمادها وقد ساهمت بعض اللقاءات والتصريحات التي صدرت عن بعض رموز السلطة والطوائف في تبريد الأجواء نوعاً ما، بعد أن كادت أن تنفجر نهاية الأسبوع الماضي، لولا مسارعة الجيش الى التدخل الحاسم ووضع الأطراف المعنية أمام مسؤولياتها في ضبط عناصر الشغب التي انتشرت في الأحياء والشوارع، ممّا أعاد الى الأذهان أحداث السابع من أيار عام 2008، فالاحتقان الذي حصل على خلفية بث شريط فيديو على إحدى محطات التلفزة العربية وانتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، ويتضمن استهزاء بإحدى المرجعيات الدينية والسياسية في لبنان، كان كافياً لتأجيج العصبيات المذهبية المحتقنة أصلاً، والدليل على ذلك الممارسات التي حصلت خلال ساعات وكادت تدخل البلد في أزمة كبيرة.
مصادر تابعت ما حصل رأت أن الأمور كادت أن تفلت عن السيطرة، بعد أن نزل المسلحون الى الشوارع، وسارت تظاهرات في العديد من المناطق تردد شعارات سياسية ومذهبية استفزازية، إلا أنه تم احتواء الوضع نتيجة عدم وجود قرار سياسي بالتفجير الواسع، ولكن ليست كل مرة تسلم الجرة فلعبة الشارع ليس باستطاعة أحد ضبطها دائماً، مع إشارة ضرورية وهي أن القوى الطائفية المتصارعة على السلطة ليس لها مصلحة في خروج الأوضاع عن السيطرة، خصوصاً في هذه المرحلة حيث تتحين أطراف أخرى متشددة الظروف للسيطرة على الوضع، في ظل النيران المشتعلة في سوريا، وما أفرزته من انعكاسات على الوضع اللبناني، وتحديداً قضية اللاجئين السوريين الذين يتخوف الكثيرون بأن يتحول بعض هؤلاء الى ألغام قابلة للتفجير في أية لحظة، في ظل الظروف المعيشية الصعبة التي يعيشونها من جهة، ونظراً لإرتباط بعضهم بالجماعات الإرهابية من جهة ثانية. وهؤلاء ومعهم قوى لبنانية متضررة من الوضع القائم، قد يجدون أن هذه المرحلة هي الأمثل لإشعال الفتنة المذهبية في البلد، في غياب السلطة الرسمية القادرة على ضبط الوضع.
المصادر الدبلوماسية جددت التأكيد لـ "النداء" أن الملف اللبناني مجمّد بشكل عام، بانتظار ما سيكون عليه المشهد السوري حيث بدأت ملامح التسوية الأميركية – الروسية في هذا الخصوص بالظهور، واتفاق وقف الأعمال القتالية اذي بدأ تنفيذه منذ أيام قد يكون الخطوة الأولى في هذا المسار الطويل، وإلا فإن سوريا ذاهبة الى التقسيم، وفي الحالين سيكون لذلك انعكاسات على الوضع اللبناني، وهذا ما بدأت بعض قوى السلطة تدركه وتتعامل معه، لا سيما بعد سقوط العديد من الرهانات حول إمكانية حصول حسم عسكري لمصلحة أي من الأطراف المتقاتلة، وتصدي كل من موسكو وواشنطن معاً للمغامرة التي كانت أنقرة والرياض تسعيان إليها وتتمثل في التدخل البري في سوريا، وتوريط الولايات المتحدة التي لها حسابات ومصالح مختلفة، تتقاطع مع المصالح الروسية.
لذلك، ليس من المسؤولية في شيء الإقدام على مغامرات سياسية فاشلة في لبنان قد تكون نتائجها كارثية عليه، وبات على قوى السلطة الكف عن تقديم مصالحها الفئوية والشخصية على حساب البلد ككل، والشروع في خطوات انقاذية جدية وعدم المضي في سياسات فئوية تؤدي الى الفتنة. ومع التأكيد على استمرار الحوار بشقيه الثنائي والموسع، فإن هذا لا يكفي للملمة الوضع الذي أصبح على كف عفريت سياسياً وأمنياً، وفي الهاوية اقتصادياً واجتماعياً ومعيشياً، حيث الناس يئست من هذه الطبقة السياسية الفاسدة وباتت أمام أحد خيارين: إما التغيير وإما الهجرة وبالتالي لا بد من مؤتمر وطني حقيقي للحوار يتفق خلاله على نظام جديد يحترم المواطنة، والمدخل الى ذلك قانون انتخابي يقوم على النسبية وخارج القيد الطائفي وإجراء انتخابات نيابية على أن ينتخب المجلس النيابي الجديد رئيس للجمهورية وتشكل حكومة وحدة وطنية قادرة على إدارة المرحلة والتصدي للتحديات التي تواجه لبنان،، مع العلم أن الخطر الأمني داهم، ولا بد للجيش والقوى الأمنية من اتخاذ الاحتياطات والإجراءات اللازمة للتصدي له، مع وجود دلائل تؤكد أن عمليات تسليح واسعة تجري في بعض المناطق، وأن هناك خلايا نائمة يجري تحريكها في أية لحظة لقلب الطاولة على رؤوس الجميع، والإطاحة بالاستقرار النسبي، مع ما يستتبع ذلك من تصدعات على مختلف المستويات، ولن تكون الانتخابات البلدية بمنأى عنها.