مع الحقيقة: سمير دياب "الطائف" نموذجاً للحروب المفتوحة
ينتظر الشعب اللبناني منذ إتفاق الطائف عام 1989 جرعة أمل علّها تنسيهم ويلات الحرب الأهلية التي استمرت 15 عاماً. لكن عبثاً الانتظار أو التفتيش عن بصيص أمل يخرج من جعبة الطبقة السياسية المسيطرة منذ تسعينيات القرن الماضي. لا نبالغ القول إن قيادة هذه الطبقة للبلاد تسير بعكس أي منطق سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي محلي أو عالمي. هم توافقوا على مقدمة دستور "الطائف" ولغموا متنه بحقل من الألغام الطائفية. وعند أول استحقاق انفجر أول لغم بمقدمة الدستور، لتكر سبحة التنكيل به، وتشريحه على قياسات تتعلق بكل شيء فئوي أو طائفي باستثناء قياسات الوطن والشعب.
إتفاق الطائف بعجره وبجره لا يلبي بالأساس الحد الأدنى من طموحات الشعب اللبناني باتجاه تحصين السلم الأهلي لمنع تجدد الحروب الفتنوية الطائفية، وبناء الدولة الوطنية الديمقراطية، لكننا أبعد ما نكون عن أي من المستويين، وقاب قوسين أو أدنى من تكرار تجربة الحرب الأهلية بفعل هذا الكم من الشحن المذهبي والطائفي الأمر الذي يؤكد مجدداً الدور السلبي لأطراف النظام السياسي – الطائفي من جهة، وتغذية كل طرف من أطرافه لعوامل التطييف والقسمة والارتهان لمشاريع إقليمية ودولية من جهة ثانية. لذلك، فإن لبنان يتأثر مباشرة باهتزازات المنطقة، ومتغيراتها، واختلافات أو اتفاقات أطراف الصراع فيها، ما يبقي الوضع في لبنان على "كف عفريت" كما يحصل اليوم من مناخات سياسية وأمنية متوترة توحي بهبوب عاصفة حرب مذهبية هوجاء لأسباب قد يطول شرحها، لكنها مرتبطة ارتباطاً مباشراً بالصراع الإقليمي - الدولي في المنطقة وعليها. صحيح أن لبنان ليس جزيرة معزولة عن أزمة المنطقة، وأنه شاء أم أبى سيتأثر ويؤثر بالأزمة السورية بحكم الجغرافيا والتاريخ، لكن هذا التأثر محكوم بخلفية إقليمية سياسية طائفية أو مذهبية وليس على خلفية القاعدة السياسية الوطنية وفق مشروع يحصن السلم الأهلي الداخلي ويعزز عملية مواجهة مشروع الشرق الأوسط الجديد وأدوات أقنعته المتغيرة "غب الطلب". وإذا كان "الإرهاب" المنتشر يشكل سلاحاً سياسياً وطائفياً من أسلحة المشروع الامبريالي، فإن المواجهة الطائفية بالطائفية، والمذهبية بالمذهبية لا تشكل حلاً، إنما تخلق أشكالاً جديدة من الحروب والفتن والتدمير تخدم المشروع الذي تقاوم ضده حتى لو تم القضاء على أدواته المستحدثة.
لم يغادر القلق الشعب اللبناني يوماً، ليس خوفاَ من الحرب الأهلية هو يعيشها بأشكال مختلفة منذ الاتفاق على وقفها باتفاق الطائف، أوليس تعطيل الدستور حرباً، وقوانين الانتخاب المعمول بها بعد "الطائف" حروباً، أوليست سيادة الطوائف حروباً مؤجلة، أوليس الجوع والبطالة والفقر والهجرة حروباً، أوليست النفايات المتراكمة حرباً، أليس التمديد والفراغ والفساد والسرقات والاستزلام وتعطيل المؤسسات إرهاباً طائفياً، أوليس قانون الإيجارات التهجيري وتعطيل سلسلة الرتب والرواتب والموت على أبواب المستشفيات حروباً.. 100 مليار دولار ديون على الشعب اللبناني وأطراف النظام السياسي المسيطر يطمسها، وتستنفر كل العصبيات المذهبية على هِبة (ملغاة) بقيمة ثلاثة مليارات دولار من السعودية، هل البكاء حقاً على تسليح الجيش المتروك لمصيره في عرسال من دون غطاء سياسي، أم البكاء على تضييع صفقة جديدة لإحداث توازن طائفي- حربي، وضمنها السمسرات والمحاصصات التي تخدم إرتفاع منسوب التوتر الطائفي والمذهبي، أم الحكاية إدخال لبنان في أتون الصراع الدائر في المنطقة بعد المتغيرات الميدانية الأخيرة على الساحة السورية، لعلّ ذلك في حسابات أطراف المشروع الأميركي يعيد خلط الأوراق لمصلحتها من بوابة الحرب المذهبية أو بتدخل "إسرائيلي".
الطائف والطائفية وجهان لعملة واحدة، وأطراف "الطائف" متفقون اتفاقاً طبقياً وطائفياً على إدارة أزمة البلد تحت قيادتهم، لا يقبلون ولا يتقبلون شركاء معهم من غير جلدتهم الطائفية، أو من الذين يحملون مشروعاً وطنياً أو نقابياً أو مدنياً؛ هم غير آبهين لأية قضية تهم الناس على المستويات الاجتماعية - الاقتصادية أو السياسية والبيئية والصحية.. ومعارك هيئة التنسيق النقابية والحراك المدني والنقابي حول أزمة النفايات وقانون الإيجارات الجديد والحقوق الإنسانية دلائل ملموسة "طازجة" على كيفية تعاطي أطراف النظام السياسي الطائفي مع هموم ومشاكل المواطنين.
أطراف نظام "الطائف" مختلفون ومنقسمون منذ عام 2005 بين طرفي 8 و14 آذار، وكل طرف له مرجعيته الإقليمية ومحوره السياسي، لكن كلا الطرفين لم يبدلوا تبديلاً في التعاطي مع الشأن الوطني اللبناني، لا من حيث قانون الانتخاب، ولا حول قانون البلديات، ولم يقدموا مشروعاً تنموياً واحداً يزيد من فرص العمل، ولم يبنوا سكناً تعاونياً واحداً، ولم يتقدموا خطوة واحدة باتجاه تحصين السلم الأهلي. كل ما ساهموا به هو إعادة توزيع الحصص الطائفية، وهدر انتصارات شعبنا الصامد المقاوم، وتحويل هذه الانتصارات إلى انقسامات طائفية ومذهبية من تحت، واتفاقات سلطوية محاصصاتية من فوق للإبقاء على مسك المواطن من "زلاعيمه" بالمأكل والملبس والسكن والتعليم والصحة والاستشفاء والتوظيف حتى يبقى رهينة لقوانين لعبة الانتخابات النيابية والبلدية المعلبة بتحالفات طبقية واحدة، أو لثنائيات طائفية ومذهبية واحدة. والخاسر الأكبر هو الشعب والوطن على حد سواء.
*****
تحصين السلم الأهلي وبناء الدولة الوطنية الديمقراطية، ليست فكرة مستوردة، أو مرتهنة لمرجعية إقليمية أو دولية، ولا تهم طرف سياسي أو فئة أو طائفة، إنها ضرورة وطنية للشعب والوطن لمواجهة كل العواصف والحروب الطائفية والمذهبية، وكل المخاطر المحدقة بالوطن من مخطط مشروع الشرق الأوسط الجديد التدميري، ومن لف لفه، بأدواته الصهيونية أو الإرهابية والأصولية ضمن مشروع وطني تحرري عربي جذري شامل، ليس من أجل لبنان فحسب، إنما من أجل فلسطين وسوريا والعراق وكل الوطن العربي. بهذا المشروع تتم المراكمة على المتغيرات السياسية والميدانية الحاصلة ونفتح الآفاق للمشروع الوطني العروبي التحرري والتغييري، وإلا فإن حرب داحس والغبراء مستمرة، ولو توقفت بإتفاقات أو مؤتمرات دولية وإقليمية جديدة.. واتفاق "الطائف" نموذجاً.