
شؤون اقتصادية: نديم دياب إيران بلا عقوبات غربية وأسعار النفط بلا قعر
في الصباح الذي صعد فيه وزير الخارجية الإيرانية محمد جواد ظريف الطائرة متوجّهاً إلى العاصمة النمساوية، هبطت أسعار النفط بنسبة %6. كان ذلك نهار السبت الواقع في السادس عشر من كانون الثاني من العام 2016، يومٌ تاريخي انتظره الإيرانيون منذ إبرام الإتّفاق النووي مع الدول الـستّ، وتوجّس منه المستثمرون في قطاع النفط.
ساعاتٌ قليلة وتعلن الوكالة الدولية للطاقة الذرية، من فيينا، دخول الإتفاق النووي حيّز التنفيذ، وتهوي أسعار البترول إلى أدنى مستوى لها من 12 عاماً. 48 ساعة أخرى، وتهبط الأسعار إلى ما سجّلته عام 2003 مع بدء التعاملات الأسبوعية في الأسواق العالمية، لتتراجع أسعار كلٍّ من خام برنت والخام الأميركي إلى ما دون عتبة الثلاثين دولار للبرميل الواحد تزامناً مع بدء رفع العقوبات الاقتصادية عن طهران، ومنها تلك التي قوّضت صادرتها النفطية لسنواتٍ خلت، وتخوّف السوق، الغارقة أصلاً بمعروض النفط، من تفاقم تخمة الإمدادات.
النفط مقابل النووي
قايضت إيران طموحاتها النووية السلمية بالانضمام مجدّداً إلى المجتمع الدولي من البوابة الدبلوماسية والإنخراط بالنظام العالمي الاقتصادي من خلال خلع القيود التي كبّلت نموّها الاقتصادي. ربحت طهران أكثر مما خسرته. إستغنت عن عشرات الأطنان من اليورانيوم المنخفض التخصيب وفككت قلوب بضعة مفاعلات نووية، لكنّها استعاضت عنها بمشاريع استثمارية مستقبلية خارجية، وتعاونٍ دولي في مجالات التنمية، بالإضافة إلى أسواقٍ مفتوحة للتبادل التجاري، مع ما يستتبع كل ذلك من انتعاشٍ في الاقتصاد الإيراني.
ما تزال خطّة إيران الاقتصادية للمرحلة المقبلة غير واضحة المعالم، إلّا أنّ بوادر خطوطها العريضة بدأت تتجلّى بشكلٍ لا ريب فيه مع إتّخاذ الحكومة الإيرانية القرار بضخ ّ نصف مليون برميل نفط يومياًّ، من ضمن أولى المراسيم التي اتّخذتها طهران بعد الاعلان عن بدء تطبيق الاتّفاق النووي.
العزلة الاقتصادية التي عانت منها إيران خلال فترة الحظر، الذي امتد على مراحل عدّة خلال السنوات الـ13 الماضية، انسحبت على قطاعها النفطي، قاطعةً الطريق أمام صادرات البترول التي انخفضت إلى مليون برميل (من أصل إنتاجٍ يُقدّر حالياً بثلاثة ملايين برميل يوميّاً) بعد أن وصلت إلى ذروتها في فترة ما قبل العام 2012 مسجّلةً صادرات بنحو 3.2 مليون برميل يومياً.
إيران والسعودية والعداء ثالثهما
انحسار حصّة إيران السوقية النفطية أدّت إلى خسارتها لثقلها في منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك)، متراجعةً أمام السعودية، التي تشكّل مع أخواتها من الدول الخليجية الأخرى معسكراً نديّاً للمعسكر الذي ترأسه طهران وكراكاس الفنزولية في المنظّمة الدولية.
استطاع المحور السعودي، بإيعازٍ أميركي، من فرملة استجابة "أوبك" لتدهور أسعار النفط، مانعاً كبح الإنتاج النفطي للكارتيل الذي يضمّ 12 دولة ووضع سقفٍ ملزمٍ له، في الوقت الذي تعالت فيه الأصوات، من داخل المنظمة وخارجها، مطالبةً "أوبك" بالتدخل لدعم الأسعار التي تراجعت بشكلٍ مطّرد.
ضعف الطلب العالمي الذي ما زال يعاني من ارتدادات الأزمة الاقتصادية أدّى إلى كثافة المعروض النفطي، فيما تأتى عن الانتاج الذي بقي على حاله فائضاً في المخزون النفطي لم تعد تجد بعض الدول أمكنة لإيداعه. إغراق السوق بالبترول أدى إلى انهيار سعر الخام بنسبة قاربت %35 العام الماضي وقرابة %20 اضافية منذ مطلع العام الحالي، ليقارب سعره الـ28 دولاراً للبرميل بعد أن وصلت إلى مستوى 125 دولاراً في العام 2012.
تسعى إيران، الدولة الثانية المنتجة للنفط منخفض الكلفة في الشرق الأوسط بعد جارتها اللدودة السعودية، إلى استكمال الاستفادة من مخزونها النفطي، التي بطأت عملية استخراجه مع انسداد آفاق تصريفه خلال فترة العقوبات، إضافةً إلى رغبتها في استرداد موقعها في السوق العالمية، في تحدًّ واضحٍ للرياض التي بدأ اقتصادها يرزح نتيجة تهاوي مداخيل النفط بفعل السياسية الانتاجية البترولية التي سعت وما زالت تسعى السعودية للدفاع عنها.
المعروض الإيراني والعجز في الطلب
وفي صراع عملاقي النفط الشرق-أوسطيين، أخبارٌ سيئة بالجملة للمتداولين بالذهب الأسود. لم تفتح إيران المزيد من صنابر مخازن نفطها بعد، ولم تبدأ حفاراتها بالعمل لساعاتٍ إضافية أو استكشاف آبار جديدة. لكنّ في عزم إيران العودة إلى السوق النفطية ضغوطات إضافية على أسعار النفط التي قد يدفعها كثافة المعروض إلى مستوى الـ16 دولاراً للبرميل، بحسب توقّعات بعض المحللين. يشهد السوق النفطي العالمي فائضاً يومياً يقدر بين نصف مليون برميل إلى مليون ونصف مليون برميل، وتقود هذا العجز "أوبك" التي يشكل مجموع إنتاجها النفطي اليومي 32.2 مليون برميل (حسب إحصاءات شهر كانون الأول الماضي)، فيما الطلب العالمي يقدر بـ31.6 مليون برميل.
من الطبيعي أن تهدد أية مشاريع نفطية تصديرية لإيران الديناميكيات الاقتصادية المحدِّدَة للأسعار من خلال زيادة تشبّع السوق بمعروض المادة النفطية التي، في ظل الطلب الضعيف، ستدفع بالأسعار إلى هاويةٍ أعمق من التي وصلت لها. إلّا في حال أعادت السعودية، التي تحقن حالياً قرابة الـ10 ملايين برميل نفط، النظر في سياستها النفطية الهجومية. إلا أن هذا الأمر، بطبيعة الحال، مستبعدٌ، خصوصاً أنّ أية خطوة للرياض إلى الوراء تعني تسجيل الخصم- طهران هدفاً في المرمى السعودي، الذي فضّل رفع الدعم عن أسعار مواد الطاقة داخل المملكة لخفض النفقات وسدّ العجز التاريخي (86 مليار دولار لعام 2015) عوضاً عن الاستغناء عن حصته السوقية.
التبعات الاقتصادية لشجار الجارتين
الخلافات السعودية- الإيرانية التاريخية، وتنافس الاثنين على بسط السيطرة، سياسيةً كانت أم عسكريّةً، على مناطق الشرق الأوسط، يحول دون تقديمهما تنازلاتٍ، حتّى ولو صبّت في صالحهما الشخصي. الاتّفاق النووي لم يعجب السعودية قطّ. ذاك التناغم الإيراني، وإن كان محدوداً، مع الدول الكبرى، وخصوصاً الولايات المتحدة التي لم تألُ الرياض جهداً لاستمالة رضاها، أثار هلع المملكة من إمكانية خلط أوراق التحالفات الدولية وتدعيم الثقل الإيراني في المنطقة.
ولم يخف أمراء النفط تململهم من إنفتاح واشنطن على طهران قلقاً من أن يؤثر هذا التطور، ولو هامشياً، على علاقات المملكة مع من تراها "البلد رقم واحد في العالم"، كما جاء على لسان ولي ولي العهد السعودي مؤخراً. هذا الامتعاض من وراء المنابر ما لبثت أن ترجمته السعودية، قبل أسابيع معدودة من "السبت المفصلي"، على أرض الواقع عبر تسعير الصراع مع إيران من خلال افتعال أزمةٍ دبلوماسية حادة بحجّة الاعتداء على منشآتها الدبلوماسية في العاصمة طهران ومشهد، في أعقاب إعدام الرياض رجل الدين المعارض نمر باقر النمر. ولهذا الاحتدام السياسي آثاره على الواقع النفطي، إذ أن الرياض من خلال تأزيم علاقاتها مع إيران، قد قطعت الطريق أمام أي اتفاقٍ أو حتى تفاهمٍ بين الطرفين العضوين في أوبك على استراتيجية لإعادة الانتظام للأسعار النفطية بعد استعادة طهران موقعها كلاعبٍ رئيسيٍّ في السوق المثقلة أساساً بالامدادات النفطية. الأمر الذي يلقي سحابة سوداء على آفاق الأسعار وإمكانية إعادة الانتظام لقطاع الطاقة الذي يشكل عصب العمليات الصناعية.
لا مهرب من تدفق النفط الإيراني في الأسواق، لكنّ الحدث المرتقب قد يكون آجلاً بدل عاجلاً. انقطاع إيران عن عالم الاستثمارات الأجنبية لسنوات أرخى بظلاله على جهاز نفطها الانتاجي وبنيتها التحتية غير المتطورتين بالمقارنة مع الطفرة الفجائية في الاستخراج النفطي التي تروّج لها طهران الطامحة بزيادة الانتاج بنحو 500 ألف برميل العام الحالي، ومليون برميل إضافي العام المقبل. وبالتالي من المستبعد أن تستطيع طهران في الوقت الراهن أن تشكّل ضغطاً مادياًّ ملموساً على السوق النفطية، مكتفيةً بضغطٍ نفسي على المتداولين، على الأقل لحد الساعة.
ومع ترقب أن تدفعها إيران إلى المزيد من الانحدار، ستبقى الأسعار في الوقت الراهن ترزح تحت وفرة معروضٍ نفطي وصلت حد التخمة مع رفع واشنطن الحظر على صادرات النفط الأميركية (الذي دام 40 عاماً) وارتفاع المخزونات والصادرات النفطية، مقابل محدودية الطلب الذي يقوده تباطؤ الاقتصاد الصيني الذي سجّل في الربع الأخير من العام الماضي أسوأ نموٍّ له منذ 25 عاماً، وتراجع قطاع الصناعات في الهند والولايات المتحدة... ليصبح النفط أرخص سائلٍ في السوق متغلّباً على المياه المعدنية والغازية والكحول.