
الحدث: مصطفى العاملي - جعجع رد الطعنة للحريري بمثلها والاستحقاق الرئاسي مُجمّد حتى إشعار آخر
أما وقد كسر رئيس حزب القوات اللبنانية، سمير جعجع، السائد في الأعراف السياسية في البلد، ورشح خصمه الرئيسي العماد ميشال عون لرئاسة الجمهورية، فإنه ليس فقط زاد في خلط التحالفات القائمة منذ العام 2005، بل أيضاً أحدث صدمة لدى جميع القوى المعنية بهذا الملف وجعلها تعيد النظر في حساباتها التي اختلط فيها العامل السياسي بالعامل الشخصي، وهو ساهم الى حد بعيد في ترّوي الكتل النيابية الرئيسية في تحديد موقفها من هذا التطور، رغم أن بعضها يجاهر منذ ما قبل الفراغ الرئاسي بأن مرشحه هو العماد ميشال عون، ولكن بعد أن جاء هذا الترشيح من قبل جعجع ووفق البيان الذي أذيع في معراب فإن المسألة اختلفت أو أنها باتت تتطلب المزيد من الدراسة والتمحيص حول الأسباب والأهداف والمعطيات.
لا يختلف اثنان على أن خطوة جعجع جريئة، وإن جاءت رداً على مبادرة الرئيس سعد الحريري بترشيح النائب سليمان فرنجية، وهو في الحسابات اللبنانية استطاع تسجيل سلسلة نقاط مستقبلية لصالحه، وإن كانت هذه الصدمة التي خربت الوسط السياسي يمكن أن تحرك الملف الرئاسي وتعطيه دينامية أكبر، ولكنها لا تعني مطلقاً أنها عبدّت الطريق أمام وصول الـ "الجنرال" الى قصر بعبدا، فالمطبات الداخلية ما زالت كثيرة والظروف الإقليمية والدَّولية التي يحاول البعض التقليل من تأثيرها ليست مناسبة في هذه الفترة لانجاز هذا الاستحقاق في وقت قريب.
وهناك من يعتقد أن "مبادرة معراب" زادت الأمور تعقيداً لا سيما بعد أن أعلن فرنجية مضيه في الترشح للرئاسة، مع ما يعني ذلك من التزام الذين رشحوه أو دعموا هذا الترشيح الاستمرار في تأييده، وهؤلاء يشكلون أغلبية نيابية ولكنها غير قادرة على تأمين النصاب القانوني لانعقاد الجلسة النيابية، وكذلك الأمر بالنسبة لمؤيدي العماد عون وبالتالي فإن الأزمة الرئاسية مستمرة، ما لم تطرأ تبدلات من شأنها إحداث تغييرات جدّية في مواقف القوى السياسية، وهذا لا يلوح في الأفق حتى الآن، فالاصطفافات الانتخابية باتت واضحة والمعادلة هي هي، ليست لدى أي فريق القدرة على ايصال مرشحه.
لذلك، يمكن القول إن جعجع استطاع أن يسلف عون، شكلياً، من دون رصيد عملي، طالما ليس بالإمكان تجييره للوصول الى قصر بعبدا، في حين أن رئيس القوات بدا مترفعاً عن الكرسي وظنيناً بالموقع وبوحدة المجتمع الذي يسعى الى تمثيله.. ويمكن القول وراثته وتنصيب نفسه زعيماً لطائفته فضلاً عن تكريس نفسه صانعاً للرؤساء، مع صك براءة عن تاريخه الإجرامي الأسود الذي لم تتمكن سنوات السجن من شطبه أو نزعه من ذاكرة اللبنانيين.
فضلاً عن أن هذه الخطوة التي أقدم عليها جعجع جاءت بعد أن فقد كل أمل له في الوصول الى رئاسة الجمهورية، وذلك بعد أن تخلى عنه حليفه الأساسي في قوى الرابع عشر من آذار سعد الحريري وسارع الى ترشيح خصمه الشخصي سليمان فرنجية، وحتى من دون التشاور والتنسيق معه، وهو ما اعتبره طعنة في الظهر فسارع للرد عليها وبالطريقة نفسها، رغم أن قوى داخلية وخارجية عملت على خط تقريب وجهات النظر بينهما إلا أنها باءت بالفشل، إذ أن جعجع وجد الفرصة سانحة لنزع التهمة عنه بأنه يلتزم بتوجيهات الحريري وأنه متواطىء مع رئيس تيار المستقبل على عدم إقرار قانون للانتخابات النيابية يؤمن المناصفة الحقيقية.
في أي حال ولدى انتهاء الاحتفال في معراب بترشيح عون، بدأت الماكينات الانتخابية تعمل ومعها التساؤلات حول الأصوات التي يمكن أن ينالها كل من عون وفرنجية في حال وصلت الأمور الى حد خوض معركة انتخابية بين الرجلين، وهل أن الجنرال يمكن أن يفرض نفسه لمثل هذه المنافسة بعد أن كان يشترط التوافق الوطني شبه الشامل على شخصه؟ ثم ماذا عن موقف حزب الله الذي ما زال يلتزم الصمت منذ ترشيح الحريري لفرنجية ولم يعلق حتى الآن على ترشيح عون، والاثنين حليفين له، ثم ماذا عن الرئيس نبيه بري وإدارته اللعبة الانتخابية؟ والنائب وليد جنبلاط الذي لم يتخلَ حتى الآن عن ترشيح النائب حلو؟ وأيضاً أين سيقف حزب الكتائب الذي يعتبر أن ما يحصل هو تجاهل مقصود لدوره ومحاولة لاستهدافه من خلال هذا التحالف المستجد بين التيار الوطني الحر والقوات الذي لن يقتصر على الملف الرئاسي، بل سيتعداه الى الانتخابات النيابية والبلدية، وهناك من يؤكد أن خيوط التحالفات الانتخابية بينهما بدأت تنسج بهدوء.
وفي ظل "البوانتاجات" الانتخابية فإنها لم تصل حتى الآن الى تقديرات دقيقة حول الأصوات التي يمكن أن يحصل عليها المرشحان المتنافسان نتيجة الغموض في مواقف بعض الكتل، وتستبعد مصادر سياسية متابعة أن تكون جلسة مجلس النواب التي دعا اليها الرئيس بري في الثامن من شباط المقبل لانتخاب رئيس للجمهورية مختلفة كثيراً عن سابقاتها، وتتوقع أن يتكرر سيناريو المقاطعة طالما أن الاتصالات واللقاءات التي ستتكثف خلال الأيام الفاصلة عن موعد الجلسة لم تفضِ الى توافق على مرشح واحد مع استبعاد حقيقي لفرضية خوض معركة رئاسية.
ولهذه الأسباب تعتبر هذه المصادر أن لبننة هذا الاستحقاق صعبة للغاية، إن لم نقل مستحيلة، وان القفز فوق العوامل والظروف الإقليمية والدَّولية وتأثيرها على الوضع اللبناني بمندرجاته كافة فيه الكثير من المراهقة السياسية، وخصوصاً أن القوى السياسية المحلية مرتبطة بالمحاور الإقليمية المتصارعة، وبالتالي من الصعب فصل الملف الرئاسي عن الأزمة المتفاقمة بين إيران والسعودية، بعد أن كان الرهان حتى الأمس القريب، منصباً على إمكانية تحسن العلاقات بين البلدين، لايجاد مخرج من الأزمة التي يتخبط فيها لبنان ولا تقتصر على الفراغ الرئاسي بل الشلل في مؤسسات الدولة كافة، وهناك من يراهن اليوم أن يجد الموضوع الرئاسي في لبنان طريقه الى الملفات التي ستبحث في القمة بين الرئيسين الفرنسي، فرانسوا هولاند، والإيراني حسن روحاني، التي ستعقد أواخر الشهر الحالي في باريس.
ثم كيف يمكن أن تجد الأزمة اللبنانية طريقها الى المعالجة في ظل التطورات في سوريا، حيث تأجل المؤتمر الدولي الذي كان يجري الإعداد له في الخامس والعشرين من الشهر الحالي وأفسح المجال لتقول المستجدات العسكرية على الأرض كلمتها وعندها يمكن البحث في التسوية السياسية ليس لسوريا وحدها بل للدول التي تشهد أزمات في المنطقة، مثل العراق وليبيا واليمن... وعندها يمكن أن تصل الى لبنان "طرطوشة" وقبل ذلك ستبقى الأمور تراوح مكانها مع بعض "المفاجآت" التي تدخل في سياق المماحكات والكيديات السياسية اللبنانية التي أوصلت البلد الى هذا المستوى من التردي على مختلف المستويات.
واستناداً الى هذه المعطيات التي تستبعد حسم الملف الرئاسي، فإن هناك اتصالات من نوع آخر تجري بين القوى السلطوية، وتتركز على البحث في السبل الكفيلة بتفعيل عمل الحكومة ذلك أن الاستمرار في التعطيل من شأنه أن يوقف المشاريع والصفقات التي تدر عليهم الأرباح وبالتالي لا بد من تحريكها لا حرصاً على مصالح المواطنين وسعياً لتحقيق مطالبهم المحقة وما أكثرها.
وفي هذا السياق أفادت مصادر متابعة أن مساعي تبذل على أكثر من صعيد لتأمين عقد جلسة لمجلس الوزراء الأسبوع المقبل، من أجل البت في موضوع التعيينات في المجلس العسكري، لتكون المدخل الى تحريك العمل الحكومي ولو بالحد الأدنى، طالما أن الدول القريبة والبعيدة لا تضع لبنان في سلم أولوياتها في هذه المرحلة، وبالتالي لا بد من حركة داخلية توقف الانهيار الحاصل وخصوصاً أن استمرار الوضع على ما هو عليه سيرتب مخاطر كبيرة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، فالأرقام الاقتصادية المرتبطة بالدين العام والنمو والدخل الوطني تؤشر الى ضرورة وقف حالة الهريان التي تضرب الاقتصاد الوطني قبل أن تقع الكارثة.
وما يقال على هذا الصعيد، لا يمكن أن يحجب المخاطر الأمنية التي يمكن أن تتأتى من قبل الجماعات الارهابية والخلايا النائمة التي يجري توقيف العديد من عناصرها، ولكن لا يمكن الاطمئنان طالما الحدود اللبنانية مع سوريا مفتوحة، وطالما هناك شبه تسليم لبناني بإبقاء بلدة عرسال الوطنية أسيرة داعش والنصرة، لقد باتت المطالبة بتعزيز الجيش والقوى الأمنية ضرورة وواجب وطني في ظل هذه الظروف الصعبة والتحديات الكبيرة التي يتصدى لها الجيش في هذه المرحلة، فمن غير المنطقي ان تتوفر مئات ملايين الدولارات لترحيل النفايات على سبيل المثال، في ما الجيش ينتظر المساعدات والهبات المشروطة من هذه الدولة أو تلك وغالباً لا تصل، فضلاً عن الاحتقان الطائفي والمذهبي والانقسامات السياسية التي توفر التربة الصالحة لنمو الارهاب الذي يسعى لايجاد موطىء قدم له في لبنان وفرضه كأمر واقع، ويمكن أن يتحول في المستقبل الى مشروع إمارة حاول إقامتها سابقاً في شمال لبنان وفشل، وليس هناك ما يمنع تكرار المحاولة، وهناك اعترافات بهذا الشأن وخصوصاً أن مصير الجماعات الارهابية في السلسلة الشرقية مرتبط بما سيكون عليه وضعها في سوريا، مما يعني أن مخاطرها قائمة.
ورغم كل هذه الأزمات التي يتخبط فيها لبنان، تصر قوة السلطة على اعتماد سياسة النعامة وتجاهل كل المشاكل والمخاطر والتركيز على كيفية توفير الظروف التي تساعد هذا النظام المولّد للأزمات للخروج من حالة الموت السريري التي هدفها الحفاظ على مواقعها وامتيازاتها الفئوية، وهذا ما يتأكد يوماً بعد يوم من خلال التصدي لأية خطوة تغييرية ولو على مستوى إقرار قانون انتخابي يؤمن صحة التمثيل.
باختصار لم يعد باستطاعة لبنان أن يعيش في ظل هذا النمط القائم، مما يسقط أية فسحة أمل بغد أفضل، وخصوصاً أن قوى التغيير الحقيقية محاصرة بالاصطفافات الطائفية، وهذا ما برز جلياً خلال تجربة الحراك الشعبي، التي ما إن عبرت عن نفسها حتى اجتمعت قوى السلطة والمال لضربها، كما حصل من قبل مع هيئة التنسيق النقابية.
وانطلاقاً من هذه الثابتة، يخطىء من يعتقد أن قوى النظام ضعيفة، وبالتالي فإن مهمة التصدي لها ومنعها من المضي في تدمير البلد وتهجير أبنائه لا تكون إلا بتوافق القوى الديمقراطية صاحبة المصلحة في التغيير، على خطة أو رؤية مستقبلية والابتعاد قدر الإمكان عن الحسابات الضيقة، وعدم الاختلاف على جلد الدب قبل اصطياده.