
بعض الذكريات حلوة... رغم مرارتها - محمد عبدو
كان ذلك في بداية العام 1959، وتحديداً في 21 كانون الثاني عندما صدر العدد الأول من جريدة "النداء"، بعد حملة تبرعات قامت بها المنظمات الحزبية وبخاصة الشبابية والعمالية.
جاء هذا الصدور بعد عام 58 الذي انتهى بإسقاط حلم حكم شمعون – مالك، وانتخاب فؤاد شهاب بعده رئيساً للجمهورية – أي إسقاط مشروع "أيزنهاور"، ومحاولات جر لبنان إلى الأحلاف العسكرية الأميركية وبعد استدعاء الأسطول السادس الأميركي من قِبل شمعون وإنزاله على شواطئ خلدة في لبنان.
جاء صدور الجريدة بعد أقل من عام على نجاح ثورة 14 تموز في العراق، وإسقاط الملكية فيه. كانت المنطقة تعج بالثورات، منها قيام الوحدة بين مصر وسوريا. وقبل ذلك وفي عام 58 كانت قد شهدت على الصعيد المحلي اغتيال الشهيد نسيب المتني (أيار 58) صاحب جريدة "التلغراف" التي كانت المنبر الأساسي في الحرب ضد شمعون وطغيانه ورغبته في التجديد.
في تلك السنة، من صدور النداء، كنت تلميذاً في ثانوية الطريق الجديدة الرسمية، حيث لم يكن في بيروت آنذاك سوى ثلاث ثانويات رسمية إلى جانب "ثانوية فرن الشباك"، و"ثانوية رمل الظريف". وكنا عشرات المتعاطفين مع جريدة "النداء" وحزبها نقرأها كل يوم، لنعرف طريقنا إلى المستقبل المضيء، وكنا من مختلف المناطق اللبنانية، وخاصة الجبل والجنوب والبقاع.
كان نشاط الجريدة، ومتفردة أحياناً كثيرة، مرتكز على مقارعة وفضح المشاريع الاستعمارية الأميركية، والاعتداءات الإسرائيلية، ومحاربة الاحتكار الداخلي في سبيل لقمة العيش والديمقراطية الحقة.
في تلك الأيام امتدت أصابع القمع والإجرام لتطال الوطنيين في الجمهورية العربية المتحدة (وخاصة في سوريا) حيث تم قتل أحد المعلمين (سعيد الدروبي) في سجون حمص وطلبت منا "النداء" تأمين عريضة استنكار تمثل هذه الجريمة.
إدارة المدرسة تراقبنا وتلاحقنا، واستطاعت بواسطة عملائها، من بعض الطلبة، أن تصل إلى معرفة حقيقة العريضة، وكان الرفاق قد تداركوا الأمر خوفاً من قمع الإدارة، وقاموا بإخفاء العريضة والتقيد بتعليمات القيادة... فمنهم من اختفى، ومنهم من علق بالفخ... وكنت في عداد الفئة الثانية، حيث استدعاني المدير بواسطة النظارة والحاجب، وأصر على معرفة ما إذا كانت العريضة مخبأة معي. بعد أن طرح علي عدد من الأسئلة الخطية، وهي تدور حول: مضمون العريضة؟ من وقعها؟ هل تنتمي إلى حزب معين؟... وغيرها من الأسئلة. ولما لم يصل المدير إلى نتيجة أمر الحاجب بتنبيشي وعندما وصل إلى جيوبي وجد في أحدها جريدة "النداء". فطرحها على الطاولة أمام المدير الذي صرخ بعد أن بدت على وجهه علامات النصر قائلاً: هذا مستمسك جديد! هذا دليل على تورطكم في نشاطات هدامة! تخريب جو المدرسة من الداخل...! الجريدة تؤكد تورطكم في النشاط التخريبي في المدرسة. أنها أخطر من العريضة... أنها إدانة لك ولزملائك.
وكانت "النداء" المأخذ الرئيسي لاتخاذ قرار بطردي من الثانوية. شرط إكمال تلك السنة الدراسية لألتحق بعدها في السنة التي تلتها بثانوية فرن الشباك الرسمية، التي لم تكن فيها الأجواء أكثر "ديمقراطية" من أجواء ثانوية الطريق الجديدة.
في فرن الشباك كنا بناءً لتعليمات "النداء" والحزب، من ورائها وأمامها، نقوم بتوقيع عريضة نطالب فيها بإلغاء زيارات الأسطول السادس الأميركي للشواطئ والمرافئ اللبنانية. وقد نشرت بعض الصحف مضمون هذه العريضة، والتي أثارت زملاءنا من الطلاب الكتائب المسيطرين على أجواء الثانوية، وبعض إداراتها، وكانت النتيجة معركة بالزجاجات الفارغة في قلب ملعب المدرسة أدى إلى وقوع عدد من الجرحى في صفوف الطرفين.
بعد هذه الهمروجة جاء دور المطابع حيث قامت المخابرات بإلقاء الديناميت على مطابع "النداء"، مما دفعنا نحن الطلاب ومعنا العمال إلى تأمين الحراسة الليلية للجريدة، ومطابعها، في الصيفي قرب بيت الكتائب.
في مثل هذه الأجواء ترعرعت في"النداء". أنها ذكريات مؤلمة ولكنها تبعث على الفرح (لواحد مثلي) لأن الجريدة مستمرة في الصدور، وإن بشكل يبعث على المرارة (نصف شهرية) بدلاً من يومية. وصدورها وصمودها يؤكد مقولة شهيدنا الكبير مهدي عامل (حسن حمدان)... ما دامت الجريدة تصدر أي تقاوم فأنك لم ولن تهزم (لست مهزوماً ما دمت تقاوم)