
مع الحقيقة: سمير دياب إنتفاضة التغيير
إكتوى الشعب اللبناني واحترق بنيران نظام سياسي طائفي فاسد، بكل المعايير والمقاييس والمواصفات.
وصلت سموم السلطة الى داخل كل بيت، وانتشرت لتشمل المجتمع اللبناني الذي انتفض من مرارة الحياة والحرمان ونفاد الصبر ونزل الى الشارع لتنظيفه من فيروسات النظام وأمراض نفاياته.
لم يصدق أرباب هذا النظام الذين تعاقبوا على عرش الحكم بعد " إتفاق الطائف"، وعاثوا، في البلاد فساداً ونهباً وفراغاً وتعطيلاً، كما في العباد ظلماً وقهراً وجوعاً وبطالة وفقراً وذلاً وشرذمة للمجتمع. بعد أن تحاصصوا المناصب والمغانم على قياساتهم الطائفية. وإن اختلفوا وانقسموا في السياسة والتبعية للخارج لكنهم اتفقوا وتوحدوا على تحويل الشعب الى مدين لبنوك الرأسمالية المتوحشة. أو متسول على أبواب أمراء الطوائف طلباً لوظيفة أو لدخول مستشفى أو مدرسة وجامعة، او أمام أبواب السفارات سعياً وراء هجرة.
لم يصدق من يسكنون داخل ابراجهم السلطوية والطائفية والمالية العالية أن الشعب سيصل إلى مرحلة الغليان وينفجر في الشارع غضبا ضد استبدادهم وشغفهم الدائم لشفط الأموال والأرواح، طلبا للكرامة والحق في الحياة والتغيير.
السبت 29 آب لم يكن يوماً عادياً في تاريخ لبنان، كان "جيل التغيير" يحفر موقعاً له في ساحة الشهداء المسجلة قبل عشر سنوات باسم تجمع قوى 14 آذار الطائفية. بعد أن حفر قبل أسبوع في 22 آب موقعه في ساحة رياض الصلح المسجلة بذات التاريخ باسم قوى 8 آذار الطائفية.
ساحة الشعب (الشهداء) إمتلأت عن بكرة أبيها عند الساعة السادسة مساءً بألوف مؤلفة من الوجوه الفرحة، والقبضات المرفوعة، والحناجر التي لا تتوقف عن هتافات مختلفة لكن على تنوعها وسقوفها المطلبية والاجتماعية والسياسية، جمتعها لغة وطنية واحدة عابرة للطوائف، هي لغة الوجع، الألم، المعاناة وهموم الحياة اليومية، وتوق هذا الشعب الى الخلاص من نظام، عاجز، فاشل وفاقد للشرعية. الشغل الشاغل لأربابه هو البحث عن سرقة خيرات البلد بوضح النهار، ونهب لقمة الفقراء من أفواههم وجيوبهم.
هؤلاء هم جيل التغيير، رغم أنوف كل المشككين والخائفين والأبواق المأجورة التي تحاول كأدوات مرتبطة بالسلطة تسليط الضوء على خلفية هذا الحراك الشعبي الوطني الديمقراطي السلمي وأهدافه. لا أحد يقلل من قدرة هذا النظام وأدواته على استخدام كل الأيادي الناعمة والخشنة، وكل الوسائل المباشرة والملتوية لقمع هذه الإنتفاضة أو تطييفها، بغرض طمس مضمونها كإنتفاضة مطلبية وإجتماعية وسياسية وطنية واعدة بهدف التغيير الديمقراطي.
فالنضال من أجل قيام "دولة مدنية ديمقراطية"، هو نضال من أجل تحرر المجتمع ككل، بطبقته العاملة وكافة الشرائح الإجتماعية المفقرة من سيطرة أمراء الطوائف واستغلالهم الطبقي والإنساني.
وهو نضال كل المحرومين والفقراء على إختلاف طوائفهم ومشاربهم وفئاتهم العمرية ضد طبقة سياسية فاسدة ومريضة، مولدة للأزمات وللحروب الأهلية الطائفية والمذهبية. وبهذا المعنى فإن "إنتفاضة 29 آب، تشكل حلقة جديدة من نضال هذا الشعب وتضحياته، تحمل معها أمل التغيير، ويتوجب مواكبتها ومساندة شبابها من قبل كل مواطن ومواطنة، ومن كل هيئة ومنظمة ونقابة وقوى ديمقراطية وتقدمية ويسارية لدعم هذه الإنتفاضة، والإنخراط في صفوفها، والعمل على تدعيم جسور الثقة مع الناس وقضاياهم بروحية نضالية خلاقة تنم عن وعي كل مرحلة من مراحل الصراع، ومخاطرها، وتداعياتها.. وفق منهجية وآلية عمل قادرة على توظيف كل الطاقات الجماهيرية لإحداث دينامية في العملية النضالية بواسطة أشكال من التعبئة والتنظيم والبرامج لدفع هذه العملية قدماً نحو تحقيق أهدافها التغييرية.
لا أحد يدعي أن كل الخطوط سالكة، لكن ما تدركه مكونات حراك 29 آب، هو التصميم على استمرار النضال الميداني، والإرتقاء في شروطه الموضوعية المترافقة مع أزمة الطبقة البرجوازية المسيطرة، وإفلاسها، وتناقضاتها. في مقابل تجاوز الأزمة الاجتماعية كل الخطوط الحمراء. ما جعل "قضية النفايات" الشرارة التي كسرت حواجز الصمت والخوف وهدم الجدران الطائفية المشيدة من قبل أرباب النظام، وإزالة جدار العار بأقل من يوم واحد.
قال الشعب كلمته، وشعاراته دليل على ماذا يريد. الشعب يريد ماء وكهرباء وهواء نظيف. الشعب يريد عمل وتعليم وصحة وسكن وتحسين أجور. هذه مطالب إجتماعية تشكل الحد الأدنى لمقومات الحياة بكرامة. فأين جريمة المطالبة بهذه الحقوق المغيبة عمداً؟. الشعب يريد دولة مدنية ديمقراطية، دولة المواطنة والحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة. من إقرار قانون ديمقراطي للإنتخابات يقوم على النسبية والدائرة الواحدة خارج القيد الطائفي، إلى إلغاء الطائفية، وإقرار قانون مدني للأحوال الشخصية، وإلغاء كل أشكال التمييز ضد المرأة، وخفض سن الاقتراع إلى 18 سنة، وإصلاحات اقتصادية وطنية، واسترداد الأموال المسروقة، ومحاسبة الفاسدين والسارقين والمسؤولين عن القمع واعتقال الحريات.. فأين الشبهة في هذه المطالب الوطنية الممنوعة؟. الجواب ليس مرهوناً بحوار أصحاب الأزمة الوطنية لأن حوارهم الطائفي وإتفاقاتهم هي علة الوطن والمواطن. اما الجواب الحقيقي فهو مرهون بقدرة تلازم مسار النضال الاجتماعي بمسار النضال السياسي للعبور نحو التغيير الديمقراطي المنشود.
*****
صوت الشعب لا يخيف إلا من يخاف على إمتيازاته ومكاسبه الشخصية أو الفئوية والطائفية. والشعب هو الوحيد الحريص على الوطن ومقاومته واستقراره، فمن قاوم العدو الصهيوني وأستشهد على طريق التحرير من شمال لبنان وساحله وبيروته وجبله وبقاعه وجنوبه يحق له أن يثور وينتفض ليتحرر من قيود زعماء فيدرالية الطوائف ومحاصصاتهم . كمواطن وإنسان. من أجل وطن حر وشعب سعيد.